الطريق إلى الوجه العزيز

"النظر في الوجه العزيز" تحكي بشكل فعلي عن شيء قريب من شخصيتي وعوالم باديتي

125
– إدريس الواغيش (°)
لم تكن لي في يوم من الأيام نية الكتابة في جنس القصة بكل أنواعها، لولا أن قادتني الصدفة إليها. ارتميت مثل الكثيرين من أقراني مبكرا، وأنا في المرحلة الثانوية، بين أحضان الشعر العربي القديم، بكل ما يجره معه من أشكال وأوزان وبحور، لأن القصيدة كانت دائما وأبدا عشقي الأول.
قبل ذلك، كنت مهووسا بكتابة الرسائل والخواطر، وتفننت في تطريزها، حتى أن كثيرا من الأصدقاء كانوا يطلبون مني الإطالة فيها، لأنهم يجدون متعة كبيرة في قراءتها، وفق ما أسر لي به البعض منهم. كل ذلك، حدث في مرحلة مررنا بها ذات مراهقة طائشة في الثانوي، وقبلها عشنا مراهقة أخرى أكثر طيشا في مرحلة الإعدادي.
كان طول بعض الرسائل يصل إلى حدود الورقة المزدوجة أو يزيد، ثم بدأت أضيف إليها ملاحق ورقية بيضاء، كنت أنزعها نزعا من دفاتر ملخصات الدروس. بعد ذلك، بدأت أضيف إليها صورا ملونة تحمل وجوها رياضية من عالم كرة القدم ووجوها أخرى فنية كانت شهيرة في تلك المرحلة: بوب مارلي، بوب دايلن، كات ستيفنز وغيرهم. وجوه أخرى كانت تنتمي إلى عالم السينما والتلفزيون والطرب العربي والغربي، وتحمل في الغالب صور فنانين مشهورين وفنانات جميلات من فرنسا، لبنان، سوريا ومصر تحديدا.
كنت أعمل على تقليعها قلعا من مجلات فرنسية ومصرية أقتنيها ضدا في قلة ذات اليد وخواء الجيب من خرداوات مكتبات فاس ومكناس، لأنها كانت رخيصة بالمقارنة مع أثمنتها الحالية، ولأننا كنا كذلك نتقن اللغة الفرنسية، ونحن في الابتدائي والإعدادي، فما بالك بالمرحلة الثانوية، وما جاء من بعدها من مراحل ومحطات.
وحدث في إحدى المرات، أن نبهني موظف البريد بمدينة تازة، التي درست فيها الثانوي، إلى أن رسائلي قد لا تصل إلى وجهتها المرغوبة، وهي تحمل الطابع البريدي بالنظر إلى ثقل وزنها، حينها فقط توقفت عن عملية المراسلة وتبادل الرسائل، هي التي كانت هوايتي المفضلة وأنا شاب في المرحلة الثانوية.
وحدث أن وصلتني صدفة قصة: “الغراب” للقاص أحمد بوزفور بطريقة أو بأخرى، وجدت في أحداثها وشخوصها ما لم أجده في غيرها من قصص سبق لي أن قرأتها، ثم بدأت أعيد قراءتها بلهفة وعشق كبيرين، وكأنني أنا من كتبتها، لأنه لم يكن يفصل بيني وبين فضاءات العم بوزفور القصصية وأمكنته في الجغرافيا، وأبطال قصصه وشخوصه وفضاءاتهم في الواقع، أكثر من مرتفع صخري يغلب عليه الطابع الغابوي، يفصل بين قريتي التي كنت أعيش فيها وباديته التي ولد فيها، ومنها كان يستوحي السي أحمد شخوص وأحداث قصصه الأولى.
هذا المرتفع الذي يفصل بين قريتنا “أيلة” والقرية التي ولد بها بوزفور عبارة مرتفع صخري يشبه جبلا ممتدا من الغرب جهة تاونات إلى الشرق في اتجاه تازة، قد لا يتجاوز علوه الألف متر ونيف في أحسن الأحوال، كما أحداث أخرى وقصص إنسانية متشابهة. أحسست، بعد ذلك، أن أغلب القصص التي تتضمنها مجموعته البكر “النظر في الوجه العزيز” تحكي بشكل فعلي عن شيء قريب من شخصيتي وعوالم باديتي.
كنت أكاد أتحسس العم أحمد بوزفور وأصغي إليه بأذني، أدركه بعقلي وأتلمس قلمه بيدي وهو يكتب قصصه، وكأنني كنت ظله دون أن يراني أو شبيهه الذي لم يكن يعرفه. كنت أعرفه وهو لا يعرفني أو هو من كان يشبهني، وأنا لا أدري بذلك.
وعموما، كنا نتشابه أنا والسي أحمد في الفضاءات والشخوص القصصية التي تحيط بعوالمنا، قبل أن نلتقي في الواقع ونتعارف في مدن مغربية كثيرة جمعتنا مهرجاناتها الوطنية في القصة القصيرة، واكتشفت حينها أننا فعلا نتشابه في أمور وطباع كثيرة. ولم يكن قبل ذلك في العالم الافتراضي فرق كبير يذكر بيننا، لولا أنه يكتب القصة القصيرة، وأنا لم أكن أفعل حينها. ومن هنا، جاءتني فكرة كتابة القصة القصيرة كجنس أدبي جديد علي، وقلت مع نفسي: لماذا لا أجرب كتابة القصة القصيرة؟ وكانت هذه هي الانطلاقة الحقيقية في ممارستها كبلوى جميلة.
كانت بعض هذه الأقاصيص تلبسني أحيانا، وفي أخرى تعريني وتقربني من حقيقتي، ولكنها في النهاية تعيدني بهدوء إلى أحضان طفولتي في دوار “أيلة”. كنت طفلا بدويا صغيرا يعتني بالماعز في القرية، وإن لم يكن لنا قطيع، ولكنني كنت أحفظ القرآن الكريم في الكتاب وأدرس في المدرسة، ولكنني أرعى بعض الغنمات والعنزات في العطل الصيفية بين الأحراش وعلى جنبات الوديان. وكانت أقدام بعض نظرائي في القرية لا تتجه نحو الممدرسة، ولكن يسوقون قطعانهم إلى الغابات القريبة والجبال المسننة التي تعلو قريتنا، غير بعيد عن جبال الريف، هي التي كانت حصننا المنيع، وتحرس دوار “أيلة” قريتي من السيول الجارفة في فصل الشتاء من جهة الشمال.
كل شيء في قصص بوزفور كان يذكرني بطفولتي وبعض صباي، وقليل من جنون مراهقتي وبداوتي الأولى: رعي الماعز، طريقة تهيئ الشاي، كريش الغابة، بيت الضيوف الخارجي الطيني، الفقيه، عرق جباه الرجال والنساء والمناجل بين أياديهم، وهم يكافحون من أجل لقمة العيش في حقول القمح صيفا، حنان الأب وخشونته القروية، الطريق الموحل إلى المسيد في الجامع، ثم المدرسة بعد ذلك. وهكذا بدأت بوصلتي تتجه تدريجيا إلى كتابة القصة القصيرة، لأننا لم نكن نعرف أجناسها ولا أحجامها، إن كانت طويلة أو قصيرة أو قصيرة جدا. كنا نكتب حسب المزاج والطريقة التي نرتضيها لأنفسنا، قبل قصصنا شكلا ومضمونا.
وحدث أن كتبت مقالا اجتماعيا في جريدة “الاتحاد الاشتراكي” التي كنت أعمل مراسلا متعاونا معها ذات زمن ثمانيني، نال إعجاب الكثيرين في فاس، وأشاد به كل من قرأه. ولكن ما لم يكن منتظرا، هو أن أحد الأدباء جاء عندي ونبهني بمحبة يومها، فيما يشبه الملامة، إلى أن ما أكتبه أقرب إلى جنس القصة، وليس إلى جنس المقالات الصحفية، وعلي أن أستغل هذا الميول أكثر في المجال الأدبي، وليس في المجال الصحافي.
الصدفة الثانية ستكون مع العم أحمد بوزفور نفسه في إحدى المكتبات الشهيرة بمكناس، حيث التقى نظري مرة أخرى مع اسم نفس القاص، ومجموعته القصصية: “النظر في الوجه العزيز”. اقتنيتها من دون تردد بعشرة دراهم سنة 1984م، قرأتها بشغف وحب كبيرين لها ولكاتبها الذي لم أكن أعرفه. ولم يسبق لي أن التقيت به، وهو نفس الحب الذي لازلت أكنه لشيخ قصاصينا السي أحمد بوزفور أطال الله في عمره. اختليت بها ساعة ونيف في إحدى المقاهي، بعيدا عن ضوضاء الناس وفضولهم، ولم أرفع عيني ولو دقيقة واحدة إلا بعد انتهائي من قراءة كل صفحاتها.
هذه القراءة، أثارت فضولي أكبر في التعرف على هذا الجنس الأدبي الجديد الذي اسمه “القصة القصيرة”، وقد كنا شبعنا من قراءة الأشعار والروايات في المرحلة الثانوية والجامعية. وكان أغلب كتابها مشارقة، لو استثنينا روايات مغربية قليلة كتبها عبد الكريم غلاب وأشعار خطها محمد الحلوي أو روايات الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي والصفريوي باللغة الفرنسية.
وجدت أنه بإمكاني خوض المغامرة في هذه التجربة، وراقني كثيرا أن أقرأ لبوزفور على الخصوص قصة: “الرجل الذي وجد البرتقالة” بكل مضانينها وإشكاليتها الفنية والمجازية. ومن هنا كانت البداية، وبعدها جاءت الاستمرارية في كتابة القصة، تجربة أثمرت مجاميع قصصية.
شكرا للعم أحمد بوزفور الذي أنقذني من شرنقة الصحافة، وكان له الفضل في الاتجاه إلى كتابة القصة بأنواعها، لأعود مرة أخرى من حيث بدأت، بعد اللقاء بالشاعر محمد السرغيني، شاعرا يكتب القصيدة كما يتنفس الهواء، ولكن دون أن أتخلى هذه المرة عن كتابة القصة بمختلف أجناسها…!!.

(°) قاص وناقد مغربي

error: