إصدار جديد للباحث إدريس أقبوش حول “لالة مسعودة الوزكيتية”، الشخصية النسائية المؤثرة في تاريخ المغرب

والدة السلطان أحمد المنصور الذهبي التي تحدث المؤرخون عما تميزت به من أعمال ومبادرات

274
  • أحمد بيضي
في عمل بحثي جديد يعزز الخزانة التاريخية المغربية، يقدّم الباحث ذ. إدريس أقبوش مؤلفه “لالة مسعودة الوزكيتية: رائدة العمل الإحساني في العصر السعدي”، الصادر عن دار بصمة للكتاب، والذي استغرق أكثر من ثلاث سنوات من البحث والتنقيب، تنقّل فيها المؤلف بين تاوريرت ومراكش، وواد الشراط المهيب، مرورا بدارها في الخميسات، ومسجدها في مكناس، ومنزلها بقبيلة كروان، وغيرها من المحطات التي تحمل بصمات هذه السيدة الاستثنائية التي يبرز الكتاب مناقبها وأعمالها الخيرية، من إصلاح الطرق والمسالك، إلى مساهمتها في دعم الحقل الثقافي والعلمي، فضلا عن مبادراتها العمرانية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية.
يأتي هذا العمل الأكاديمي ليشكل مساهمة نوعية في إعادة الاعتبار لإحدى الشخصيات النسائية البارزة في تاريخ المغرب، لالة مسعودة الوزكيتية، والدة السلطان أحمد المنصور الذهبي، والتي خصّها المؤرخون بمديح كبير لما تميزت به من سجايا رفيعة وخصال نبيلة، غير أن صفحات التاريخ لم تنصفها بما يكفي، ما يجعل هذا المؤلف محاولة جادة لردّ الاعتبار إليها، حيث اختار المؤلف ذ. إدريس أقبوش معالجة الموضوع بمنهج علمي رصين، يراعي تعددية الأبعاد والسياقات التي طبعت مسار هذه السيدة التي بصمت تاريخ الدولة السعدية بصفة خاصة وتاريخ المغرب بصفة عامة بإنجازات عظيمة في شتى الميادين.
وفي هذا الصدد، أبرز ذ. إدريس أقبوش في مقدمة كتابه أنه على الرغم من تراكم الدراسات التاريخية حول المغرب منذ ثمانينات القرن الماضي، يظل التاريخ النسوي في المغرب من أكثر المجالات إقصاء وتهميشا، إذ لم يحظَ بما يكفي من الدراسة والتمحيص، وظل عصيا على الإحاطة الشاملة، فالأبحاث المنجزة غالبا ما ركزت على عناصر الذكورة في التاريخ، وهمشت أو أسقطت دور المرأة، التي شكلت فاعلا أساسيا في نحت معالم الحضارة المغربية على مر العصور، ويعزو الباحثون هذا التغييب إلى عوامل متعددة، أهمها هيمنة الثقافة الذكورية، التي جعلت من المرأة موضوعا للغياب والتغييب، وحددت أدوارها وفق منطق اجتماعي وتاريخي مشبع بالتمييز والإقصاء.
وصلة بالموضوع، يستعرض الكاتب ذ. إدريس أقبوش، في عمله الجديد، هذه الإشكالية انطلاقا من شخصية تاريخية فريدة هي لالة مسعودة الوزكيتية، التي برزت في فترة الدولة السعدية، وأدت أدوارا محورية على أكثر من صعيد، فرغم كل ما أنجزته من أعمال جسيمة، لم تحظَ هذه الشخصية، في حدود ما اطلع عليه المؤلف، بأي دراسة تاريخية مستقلة، باستثناء رواية أدبية بالفرنسية تحت عنوان Marocaine Ouda, Princesse لصاحبها جوزي بلغنا، هذا الفراغ المعرفي هو ما دفع ذ. أقبوش إلى إنجاز دراسة أكاديمية معمقة تسعى إلى تسليط الضوء على هذه المرأة الرائدة، التي بصمت تاريخ المغرب، خصوصا في عهد السعديين، بإنجازات ملموسة في ميادين متعددة.
ينبه الكاتب ذ. أقبوش في عمله حول شخصية “لالة مسعودة الوزكيتية” إلى أن المرأة المغربية، عبر مختلف المراحل التاريخية، شاركت بفعالية في بناء صرح الحضارة المغربية، وساهمت في إشعاعه الثقافي والاجتماعي والديني، غير أن المصادر التاريخية العربية، ولا سيما منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، لم تُنصف هذا الدور، بل اختزلت المرأة في ارتباطها بالزوج أو الأب أو الابن، مما أدى إلى إنتاج خطاب تاريخي منحاز، يعبر عن علاقات الهيمنة التي كرست الرجل باعتباره رمزا للعقل والقيادة، في حين ألصقت بالمرأة صفات الضعف والفتنة والتبعية.
ويتضمن الكتاب عرضا ثريا لأسماء نساء مغربيات لمعْن في مجالات متنوعة، من التصوف إلى العلم، ومن النسخ والوراقة إلى الأدب والشعر، ومن السياسة إلى الدبلوماسية، ومن أبرزهن: فاطمة الفهرية، زينب النفزاوية، الحرة حاكمة تطوان، خناثة بنت بكار، وكنزة زوجة إدريس الأول، وغيرهن كثيرات ممن امتد إشعاعهن إلى ما وراء الحدود المغربية، وقد جسدت هؤلاء النساء، داخل المنظومة الاجتماعية المغربية، نخبة قائمة بذاتها، استمدت مشروعيتها من أصولها الأسرية ومكانتها الاجتماعية ومستواها المعرفي، فضلا عن الأدوار الحاسمة التي اضطلعن بها.
وفي هذا السياق، تحضر لالة مسعودة الوزكيتية كإحدى أبرز النساء اللائي يستحقن التوقف عندهن، نشأت في بيئة علمية وقيمية داخل قبيلة وزكيتة الأمازيغية، وتأثرت بمنظومة أخلاقية وروحية شكلت شخصيتها، عاشت في بلاط زوجها السلطان محمد الشيخ المهدي، ثم في بلاط ابنها السلطان أحمد المنصور الذهبي، وكان لها حضور مميز تميز بالحكمة والتبصر، مما أكسبها تقديرا واسعا وسط من عاصروها، كانت أماً رؤوفًا، وزوجة فاضلة، وسيدة ذات هالة وهيبة، أعطت بسخاء في مجالات متعددة.
ولم يفت ذ. أقبوش في مؤلفه استعراض مختلف مظاهر إسهام لالة مسعودة في ميادين الدين والعلم والعمران والسياسة، فقد أظهرت حنكة واضحة في دعم المشاريع العلمية والثقافية، حيث ساهمت في تنشيط الحياة الفكرية بمدينة مراكش، كما ساهمت في بناء المساجد والخزانات والمرافق الاجتماعية، ما يعكس وعيها العميق بأهمية التنمية الشاملة. ولم تغب عن المشهد السياسي، حيث كانت لها مساهمات واضحة في عدد من القضايا الحاسمة التي شهدتها الدولة السعدية.
ويتوقف الكاتب أيضا عند مشكلة الكتابات التاريخية التي غالبا ما تصف المرأة بأنها غير فاعلة مقارنة بالرجل، وتنتقص من مكانتها في مقابل تمجيد الذكورة باعتبارها معيارًا للقيادة والنجاح، ويؤكد أن هذه المقاربة ليست سوى نتيجة لهيمنة ثقافة أحادية، تحكمت في صياغة السرد التاريخي، وهو ما يبرر الحاجة إلى دراسات جديدة تعيد قراءة التاريخ من زوايا متعددة، وتكشف عن أدوار النساء المطمورة، وبهذا الكتاب، يسعى ذ. إدريس أقبوش إلى إعادة الاعتبار لشخصية نسائية استثنائية، ويخوض في غمار تاريخ ظل مغيبا، ساعيا إلى تحقيق توازن في السرد التاريخي، وإنصاف ذاكرة النساء اللواتي ساهمن في صناعة أمجاد المغرب.
العمل الجديد لكاتبه ذ. إدريس أقبوش يستهل مطلعه بإهداء وتقديم ثم مقدمة تأسيسية تُبرر أهمية البحث وسياقه الفكري والتاريخي، فيما الباب الأول خُصص لاستعراض السياق التاريخي العام الذي عاشت فيه لالة مسعودة الوزكيتية، من خلال محورين، الأول تناول الحركة النسائية في العصر السعدي، والثاني ركّز على الاهتمام التاريخي بشخصية لالة مسعودة في المصادر القديمة والمعاصرة، وفي الباب الثاني انتقل الكاتب إلى الجانب الشخصي، متناولا هذه الشخصية النسائية، بدءً من نسبها ونشأتها داخل قبيلة وزكيتة الأمازيغية، وصولا إلى خصائصها الأخلاقية والفكرية، بل وتعمق حتى في قراءة دلالات لباسها من خلال الصور المتاحة.
ويُعد الباب الثالث من أغنى أبواب الكتاب، حيث فصّل فيه المؤلف إنجازات وإسهامات لالة مسعودة في مجالات عدة، بدء من الحقل الديني، من بناء المساجد (كجامع باب دكالة بمراكش، ومسجدها في مكناس)، وتحبيس الأوقاف، وتشييد المنشآت المرتبطة بالمساجد كالميضآت، والسقايات، والحمامات، والمدارس، والكتاتيب القرآنية، كما شمل هذا الباب محاور حول أثرها العلمي والثقافي، واهتمامها بتشييد منشآت اقتصادية وبيئية، منها القناطر و”دور الأمن” و”دار الشراط” وغيرها من البنايات السوسيواقتصادية، بينما خصص الباب الرابع لمتابعة المسار السياسي لالة مسعودة، وكيفية تفاعلها مع الأحداث الكبرى التي شهدتها الدولة السعدية.
وتوج المؤلف عمله بـالباب الخامس الذي خُصص للحديث عن ضريح السعديين، وعلاقة لالة مسعودة به باعتبارها من أبرز نساء هذا البيت الملكي، وقد ذُيّل الكتاب بخاتمة مركزة، وملحق توثيقي، إلى جانب بيبليوغرافيا غنية تُبرز حجم الجهد البحثي المبذول، إن هذا التقسيم المنهجي المتدرج من العام إلى الخاص، ومن السياق إلى التفاصيل المعمارية والسياسية والثقافية، يجعل من هذا المؤلف مرجعا مهمّا لكل باحث في تاريخ المرأة المغربية، وتاريخ الدولة السعدية بشكل خاص، كما يكرّس حضور لالة مسعودة في صلب السردية الوطنية، لا بوصفها أم السلطان فقط، بل باعتبارها فاعلة في مجالات الدين والعمران والسياسة والعلم والثقافة.
error: