
همس القمر … بقلم منير الدايري
منير الدايري
في زحمة الحياة، حيث تتصارع الأرواح كأمواجٍ متلاطمة في بحرٍ مضطرب، كان يعيش “مراد”، رجلٌ في منتصف العمر، يحمل في صدره عالمًا من الأفكار العميقة والمشاعر المتدفقة. كانت عيناه تلمعان بحزنٍ شفيف، كأنهما نافذتان تطلان على أعماقٍ لا يدركها أحد. في مدينته المزدحمة، حيث تتشابك الأصوات والوجوه، كان يشعر بأنه غريب، كأن روحه تائهة بين أشجارٍ صامتة لا تعرف همس الريح.
كل ليلةٍ في فصل الصيف، كان مراد يجلس على مقعدٍ خشبيٍّ متآكل في حديقةٍ منسية قرب بيته، يتأمل السماء الصافية وهي تحتضن القمر بضيائه الفضي الرقيق. كان يتوق إلى شيءٍ يفهمه، إلى حضورٍ يشعر بما يعتمل في قلبه دون أن يحكم أو يسيء. لكن المحيطين به كانوا لا يرون في كلماته سوى أصداءٍ خافتة، وفي صمته سوى هوةٍ بلا معنى. كل عبارةٍ ينطقها كانت تُفسر بطريقةٍ تناقض قصده، وكل نفسٍ يتنفسه كان يُساء فهمه، فتسلل القلق إلى لياليه كظلٍ لا يفارق، وصارت الوحدة قفصًا بلا جدران.
في إحدى ليالي الصيف الهادئة، بينما كان يتجول في شوارع المدينة تحت ضوءٍ خافتٍ ينعكس على الأرصفة، رفع مراد عينيه إلى السماء الصافية. كان القمر يتربع في وسطها، كأنه مرآةٌ سماوية تعكس أحلامه الدفينة. توقف لحظة، وشعر بنسيم الليل يحمل إليه همسًا غامضًا، كأن السماء تقول له: “أنا هنا، أرى ما لا يراه الآخرون”. جلس على حافة نهرٍ صغير يعكس ضوء القمر، وبدأ يهمس إلى السماء بما في قلبه، كأنها صديقٌ قديم يعرفه منذ الأزل.
منذ تلك الليلة، صارت السماء الصافية وليالي الصيف ملاذه. كان يخرج كل مساءٍ ليتحدث إلى القمر، يحكي له عن أحزانه، عن خوفه من أن يبقى وحيدًا إلى الأبد، وعن تلك اللحظات التي شعر فيها أن العالم كله يعاديه. لم يكن القمر يرد بكلمات، لكنه كان يستمع بصمتٍ مهيب، يغمر مراد بشعورٍ غريب من السلام. كانت السماء بنجومها المتلألئة كأذانٍ صاغية، والقمر بضوئه الهادئ كقلبٍ متعاطف، يفهم دون أن يحكم.
في إحدى الليالي، بينما كان يسير على ضفة النهر تحت سماءٍ مرصعة كأنها لوحةٌ من نور، شعر مراد فجأة بأن السماء تهمس له: “الشقاء ليس قدرك، يا مراد، بل هو غياب من يعكس حقيقتك. أنا هنا لأكون مرآتك”. رفع عينيه إلى القمر، وابتسم ابتسامةً لم يعرفها منذ زمنٍ بعيد، كأن نسمةً خفيفة نفضت عن روحه غبار الوحدة.
مع مرور الليالي، صارت تلك العلاقة مع السماء الصافية والقمر ملجأً يحتمي به من ضجيج الأيام. بدأ يكتشف في نفسه أفكارًا جديدة، كأن ضوء القمر ينير زوايا روحه المعتمة. كلما نظر إلى السماء، شعر أن الحياة تتشكل من جديد بألوانٍ لم يعهدها: أبيض السكون، وفضي الأمل، وأزرق الصفاء.
في النهاية، أدرك مراد أن السعادة لا تكمن في أن يفهمه العالم بأسره، بل في أن يجد حضورًا واحدًا يعكسه كما هو، دون تزييفٍ أو قيود. وفي تلك الليلة، وهو مستلقٍ على العشب ينظر إلى القمر والسماء الصافية، تذكر مقولةً لشاعرٍ قديم، ربما كانت للرّومي: “ابحث عن من يرى روحك في صمتك”. وابتسم، لأنه وجد في السماء تلك الرفقة التي طالما اشتاق إليها.
وهكذا، تحول شقاؤه إلى بهجة، ليس لأن العالم تغير، بل لأنه وجد في القمر والسماء الصافية من يراه بعيني السماء، ويسمعه بقلب الليل.