في زمن المحن والأزمات تشتد وطأة الكآبة والقلق، وتصعب الحياة أمام شرور السياسة والفقر والأمية والبطالة…فتزيد حاجتنا لمن يرشدنا لكي نتماسك ونحن في عالم ينهار من حولنا ،مما يحتم علينا السعي نحو امتلاك ثقافة فلسفية تساعد الذات على العيش في السكينة والسلام الداخلي، وتدبر مشاكلها الحياتية اليومية بواسطة التعقل الفلسفي.
في هذا الإطار يرى سعيد ناشيد من خلال كتابه أن مهمة الفلسفة هي أن تمنحنا أسلوبا معقلنا في العيش قصد مقاومة الظروف الحياتية الصعبة المرتبطة بالفشل والإحباط والمرض والموت وغيرها، باعتبار أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل والتنوير والحكمة. فالكاتب ينطلق من فكرة التأسيس للفلسفة كضرورة وجودية للحضارة الإنسانية، والتي من خلالها يمكننا أن نتساءل كيف لنا أن نفكر من دون التفكير الفلسفي لمواجهة قيم الانحطاط والهمجية والتعايش مع مظاهر العنف.
فالفلسفة من وجهة نظر الكاتب هي أسلوب حضاري وأسلوب حياة ترشدنا إلى إعمال الفكر وإلى الفهم العميق للنفس البشرية، وتكون لنا بمثابة النبراس والضوء الذي به نستعين في عتمة الروح حتى تستطيع ذواتنا أن تسيطر على قدرنا الاجتماعي وعلى تقلبات الحياة عبر أفكارنا ووعينا ونوازعنا ورغباتنا، والضرورة الحياتية تفرض علينا النظر في بنية العقل وعملية التفكير طالما أن التفكير هو أداة لتحرير الانسان من الانفعالات السلبية والغرائز البدائية كالغضب والخوف والكراهية والغيرة والإحباط ، والتي تعد كعوامل تعاسة وشقاء.
فالفلسفة تؤهل الانسان للانتقال من التفكير اللاعقلاني الانفعالي العدائي إلى التفكير العقلاني النقدي المتفتح، وتمنحه القدرة على التفكير والنقد والتأمل والتفكيك ، فالفرد أصبح مهددا بفراغ روحي يوشك أن يتحول إلى نوع من العدمية، مع أن الطبيعة طبعا تخشى الفراغ .
من هنا يرى سعيد ناشيد أن الفلسفة كأسلوب حياة تساعدنا في إعادة التفكير في نمط تفكيرنا، وترشدنا إلى إعمال الفكر وإلى الفهم العميق لسيكولوجية الانسان، فلا يمكننا أن ننمي القدرة على الحياة من دون تنمية القدرة على التفكير ، ولا سيما التفكير النقدي، فقد شبه الفلسفة كصيدلية يجد فيها الفرد ترياقا لعلاته وأمراضه، فأن نعيش الحياة معناه أن نعيش تأويلنا للحياة، فالوقائع تمحى وتزول، ولا يبقى إلا الأثر وأفكارنا وتمثلاتنا عنها وتأويلاتنا حولها، فكثير من صعوبات الحياة ترتبط بطريقة تفكيرنا في تلك الصعوبات.
في نظر الكاتب إن الفلسفة بوسعها أن تمارس دورها العلاجي في الشفاء من الشقاء الاعتيادي ،وتحويله إلى سعادة اعتيادية ، ويصبح التداوي بالفلسفة إما ذاتيا عبر قراءة الكتب الفلسفية كمصدر للراحة والتداوي ،والتفكير في الأفكار والمفاهيم التي تطرحها أو بالتأمل والنقاش الذي يعد من أهم وسائل التداوي بالفلسفة كوسيلة للتعامل مع الألم والبحث عن المعنى ، أي التعرف على أوجاع الألم واستيعابها وفهمها لنبحث عن معنى الحياة في تجاربنا وألمنا، وإما موضوعيا بالإرشاد والاستشارة الفلسفية.
ومن جهة أخرى، يعتبر التداوي بالفلسفة كوسيلة للتعاطي مع الاضطرابات النفسية، فالإنسان كذات لا يخضع كليا حسب الكاتب لمنطق الضرورة الحياتية، بل لديه فرصة للسيطرة على ردود أفعاله، والتي يمنحها له وعيه بذاته، فبالفلسفة نستطيع أن نغير تفكيرنا من تفكير ناقم لتفكير متأمل ناقد يفكك هول الصعاب ويخفف من تضخيمها ، كأن يحول طاقة الألم إلى أمل وشجاعة مقدامة للحياة.
إن كتاب “التداوي بالفلسفة”، لصاحبه سعيد ناشيد، يستكشف قيمة البساطة والتواضع في مواجهة الضغوطات والتعقيدات التي تواجه الأفراد في حياتهم، ويدفعنا عبر هندسته الفكرية إلى مصالحة الذات وتقبل القدر الشخصي والقدرة على التعايش مع الواقع ، كما يعكس أهمية القيم الأخلاقية في الحفاظ على التوازن والتوافق مع الذات والطبيعة والآخرين، وأن السعادة الحقيقية هي التي تنبع وتفيض من دواخلنا ومن القدرة على النمو الروحي والعاطفي، وأن الشر الحقيقي يكمن في عقولنا، والإنسان يحتاج إلى حسن تدبير ذاته حتى لا تنفلت منه لاسيما في لحظات انفجار الانفعالات والمشاعر السلبية، كما يحتاج إلى الرضا بالقدر كمفهوم فلسفي مع مقاومته في حدود المعقولية حتى لا تصبح مقاومة القدر مجرد عبث وإذلال مجاني للنفس البشرية .
التفكير الفلسفي في الانسان حسب ناشيد يفرض علينا التفكير بالجسد سطحيا بدل العمق لأن العقل والجسد سيان ،باعتبار أن الجسد بكامله يشارك في عملية التفكير ولو بنسب متفاوتة، فالعقل يمكن تعريفه بأنه ذلك الجهد الحسي الذي يبذله الجسد لكي يحمي نفسه ويبني من خلاله مناعة تقيه تأثير الانفعالات السلبية الداخلية. إن استخلاص القيمة الأخلاقية للأفكار الفلسفية القديمة والحديثة لاستخدامها كنوع من العلاج الفلسفي للكثير من المشكلات التي تواجهنا ، إن الفلسفة بعمقها المعرفي تشفي الغباء والأحكام المسبقة التي تحتاج إلى دقة عقلية ، كما تنطوي الفلسفة على قدرات شفائية نفسية تصيب الانسان في جوهره من خلال التأمل الفلسفي الذي لا يكتفي بجانب من جوانب شخصيته.
وعلى الرغم من الرأي المعارض لعلماء النفس ، فإن معشر الفلاسفة يصرون على الدور الشفائي للفلسفة ،لذلك يعمدون إلى إنشاء العيادات والمنتديات والمكاتب الاستشارية الفلسفية ، ويحثون الناس على استكشاف حقل التفكير الفلسفي بغاية فهم أفضل لمكانيزمات الذات ومعالجة مشاكلهم بحس فلسفي أخلاقي في مجتمع يتميز بالتأزم الأخلاقي والقيمي والاجتماعي والاقتصادي ،لأن في خضم هذا الواقع المأزوم والذي تتجاذبه أولويات حياتية متعارضة يحتاج الفرد إلى إرشاد فلسفي يلامس جوهر الأمور.
كتاب “التداوي بالفلسفة” لسعيد ناشيد يعتبر كتابا فريدا يجمع بين الفلسفة والعلاج النفسي، كما أنه يقدم رؤية شاملة حول كيفية استخدام الفلسفة كأداة للعلاج النفسي ، ومن خلال محتوى هذا الكتاب ،فهو يهدف إلى مساعدة القراء على فهم أن الفلسفة ليست مجرد نظرية مجردة ، بل يمكن أن تكون أداة قوية للتعامل مع تحديات الحياة والصعوبات النفسية المطروحة، وبصفة عامة يعد كتابا مثيرا للتفكير والتحدي حيث يقدم رؤية متميزة حول كيفية اعتبار الفلسفة أداة للعلاج النفسي .