ملامح التجديد في الرواية المغربية: “روائح ديهيا” للروائي المغربي طارق بكاري نموذجا

70
الحسين أيت بها (°)
   “روائح ديهيا” (1) رابع عمل روائي للكاتب المغربي طارق بكاري بعد روايته الأولى ” نوميديا” الحائزة على جائزة المغرب للكتاب، و روايتيه الأخيرتين: ” مرايا الجنرال” و” القاتل الأشقر”، وجميعها صادرة عن دار الآداب بيروت لبنان، وقد فتحت الرواية الأولى “نوميديا” لصاحبها آفاقا واسعة، و منحته شهرة كبيرة، ووضعت الأدب الروائي المغربي ضمن خارطة الريادة في الرواية العربية، واتفق الجميع على أن طارق بكاري كاتب وروائي شاب واعد بعطاءاته في مجال الرواية، وهو يثبت ذلك كل سنتين بإصدار جديد، ومن خلال عمله الإبداعي الأخير ” روائح ديهيا” الرواية قيد الدراسة والتحليل.
فما مظاهر التجديد في الرواية؟ وهل تفوق الكاتب على نفسه ولم يترك الروايات السابقة تقتل جديد أعماله؟ وهل أضاف ما يعزز تجربته المميزة في الكتابة؟.
قبل الحديث عن التجديد الذي تحمله رواية ” روائح ديهيا” وجب الإشارة إلى أهم مظاهر التجديد في الرواية المغربية بصفة عامة، عبر وضعها في سياق رهاناتها ومستقبل الكتاب المغاربة الشباب ضمن الإنتاج العربي المغربي للرواية.
حيث دأب الروائيون الشباب على تناول مواضيع جديدة لها علاقة بتعقيدات الحياة المعاصرة، وتحولات المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة، حيث تنوعت المواضيع وتعددت بحسب تعدد المرجعيات الفكرية لأصحابها، فشملت الحديث عن العلاقة بين الذات والغير، في محاولة كل واحد منهما فهم الآخر، وتحديد طبيعة هذه العلاقة.. والكتابة عن الهوية والجنس والرواية النسوية والذاكرة والهوية وقضايا الدين..
وقد عرفت الرواية أيضا التطرق لمواضيع جديدة عبرت عن مرحلة جديدة في سياق انفتاحها على العولمة وتحولاتها والتكنولوجيا الجديدة، من خلال الكتابة عن مواقع التواصل الاجتماعي وهيمنتها على الإنسان المعاصر، وتحولات الربيع العربي وإنسان ما بعد الحداثة، والكتابة عن هواجس الذات وولعها بالسفر والترحال، من خلال رصد حالة الذات المغتربة في علاقتها بالوطن.
 واعتماد التغريب أثناء القراءة وسفر الروح نحو مدن مجهولة أو قارات عابرة أو مدن وعواصم أوروبية، حيث أصبحت الرواية المغربية تتفاعل بنصوصها الجديدة مع مجتمعات جديدة بفضل الانفتاح والتحديث والعولمة والترجمة.
أما رواية ” روائح ديهيا” للكاتب المغربي طارق بكاري فجاءت في هذا السياق، وهي إنصات لهموم الذات وآلامها ومتاعبها وتوثيق لأوجاع الذاكرة وجروحها، لذلك فالكتابة هي بمثابة دواء لهذا الوجع.
تبدأ الرواية بالحكاية البؤرة بطلها يوسف ذو الذراع المعطوبة، العائد إلى قريته الأمازيغية في مدينة صنهاجة المغربية، بعد غياب طويل، ليعيد ترميم نفسه وذاكرته المليئة بالآلام والمحن، تؤطرها قصص تسمى في عرف السرد، بالحكايات الإطار: محنة موت أمه وخياناتها، ودخول والده السجن بعد تورطه في جريمة قتل جاره النجار، وحبه الأول لنجمة زوجة الحاج برنانر، وعشقه الأبدي ل ” ديهيا”، تلك الفتاة الفرنسية من أصول أمازيغية القادمة للقرية بحثا عن أصول عائلتها الفرنسية، وتكفير صديق طفولته مصطفى له، ذلك الصديق الذي تحول إلى رجل دين متشدد نتيجة معاناته النفسية وتعرضه للاغتصاب من طرف المعلم في المدرسة، هذا المعلم بدوره الهارب من القرية بعد اكتشاف أهل القرية فضائحه، وإنقاذ مصطفى له بعد مساعدته على الفرار…
كل تلك الأحداث أججت وجدان البطل ليعيد كتابة سيرته من جديد عن صنهاجة والنزف ألما وجرحا، وهو يتوغل في أعطاب ذاكرته المفقودة والحزينة. عبر الأمكنة التي شدته إلى حنين ذكرياته الماضية في القرية بعد ربع قرن من الغياب. 
“روائح ديهيا” هي التزام من الكاتب للكتابة بأسلوبه المعهود والمميز الذي ختم به مشروعه الروائي، بتركيزه على الشكل والمضمون، وتميزت الرواية من حيث الأسلوب والشكل الجديد، الذي أعطى نفسا جديدا، جعلها تحتل مرتبة كبيرة ضمن الأعمال التي نالت استحسان القراء، حيث لعب الأسلوب دورا مهما في التعريف بالرواية، ولكي تكون أكثر جاذبية، وهنا يغلب الشكل على المضمون سيرا على نهج الروايات الروسية المغرقة في الشكلانية، التي تعتمد على الشكل بعيدا عن التوجهات الإيديولوجية في القصة والرواية ونقدهما.
ولأن الشكل يسبق المضمون بالنسبة لسمات ومعالم الرواية الجديدة، في مخالفتها للسائد والنمطي والجاهز، والمستهلك التقليدي، والشكل الذي بواسطته يتم تمييز قيمة وجودة العمل الروائي، ولأنه يشكل عاملا مهما في بناء عوالمها التخييلية. إلى جانب المضمون الذي هو أساس الرواية وجوهرها، شرط أن ينطلق من جانب الشكل ويؤسس لشكل جديد في الكتابة لتحقق التكامل المنشود. 
فقد بذل طارق بكاري مجهودا رائع في كتابته ل ” روائح ديهيا”، اتضح ذلك من خلال بناء الحبكة المنسجم والمتكامل حيث كانت القصة مثالية، والأحداث والعلاقات بين الشخوص في رواية محكمة البناء، حيث أن لا مجال للصدفة في طريقة تقديم الحكاية للقارئ.
كما عرفت الرواية توظيف “الفايسبوك” وسيلة التواصل الجديدة التي أصبحت الآن ضرورية في حياتنا، وولجت عوالم التخييل الروائي، حيث نجدها بديلا حقيقيا للواقع المفتقد، وفي الرواية شكلت جزء هاما من حبكة الرواية التي أضفت علي التخييل طابع الواقعية، وقد قام بطل الرواية بالبحث عن حبيبته السابقة ” نجوى”، يقول: ” … كتبت على صفحتي في الفايسبوك منشورًا مقتضبًا أنفي فيهِ موتي، وألعن مروجي هذه الإشاعة. كان لي أعداء كثر، وكم تعرضت قبل اليوم لإساءات مشينة، لكن ما كنت أحسب أن الدّناءة قد تصلُ بهم إلى هذا الحدِّ!
تفقَّدت طلبات الصداقة، وعجبتُ كيف أنَّهم يواصلون إرسالها على الرَّغم من أنني في عداد الموتى..
حين رأيت طلب الصداقة باسم ” نجوى السعداوي”، دخلتُ بدافع الفضول إلى حسابها، كان عاريًا إلا من صورة يتيمة ضمتنا معا، غير بعيد عن مدخل كلِّية الآداب. (2).       
الهوامش
(1) روائح ديهيا، طارق بكاري، دار الآداب، الطبعة الأولى 2021.
(2) روائح ديهيا، طارق بكاري، ص: 50.
(°) كاتب وناقد مغربي
error: