تجاذب المسرحي والسرد الواقعي في رواية “حين يزهر اللوز” للكاتب المغربي محمد أبو العلا

108
  • الحسين أيت بها (°)
 تشي القراءة الأولية، لرواية “حين يزهر اللوز” (1) للكاتب والناقد محمد أبو العلا، بتملكه لتجربة كبيرة في الكتابة المسرحية، إضافة إلى دور هذه الخلفية في تخصيب أسلوب الرواية، مما أضفى على العمل حلة تجريبية مغرية، نتيجة هذا التضايف بين المسرح والسرد.
في البداية نشير إلى أن المتأمل في الرواية سيخرج بانطباع أولي، وهو أن “حين يزهر اللوز” عبارة عن سرد  دافق، وتشييد محكم لعناصر الحبكة المنظمة للقصة البؤرة، موضوع الاشتغال، كما يبين قدرة السارد على استرجاع التفاصيل الصغيرة والكبيرة لما حدث في الجبل، وما تغلغل من صراع نفسي دائر بين شخصيات واقعية في تقاطعها مع شخصيات متخيلة ابتدعها الكاتب، يظهر ذلك من خلال تقمص السارد لشخصية بطل الرواية “ادريس”، أو ساعي البريد في بلدة جبلية مهجورة، وفي عزلته القاتلة في وكالة بريدية معزولة عن العالم، ومحاصرة بين الثلوج لمدة طويلة، مما سيضطر السارد ـ في تزجية للوقت  ـ إلى فض رسائل توقف  بها البريد عند تاريخ إرسالها أو استقبالها، لينبعث واقع آخر، هو ماضي البلدة، بفعل ضربة مقص.
  فأثناء تصفح السارد للرسائل والطرود، سيطالع قصصا مأساوية بين حبيبين طال عليهما الفراق، وحكايا أخرى طالها النسيان، وآمال وأحزان مدفونة تحت البياض/ الثلج. ومنها رسالة “ياسمين النجار” التي تستعطف فيها زوجها “محمد السهلي” أن يترجل عن الجبل الذي لم يخلق له”:
“محمد حبيبي: آلمني أن أرحل، أن أطوي المسافات نزولا بعد أن تجشمنها صعودا نحو بلدة المنجم، محاكين الجوارح ومقتفين سرب وعول نافضة صقيع الخمائل، حالمة بشموس القمم قبل أن يطوح بنا الجبل كما طوح ب”لارا”  جثة باردة في أنفاق المنجم…” (2) ، ومحمد السهلي بالمناسبة هو “محماد أحيوض” الذي ظل أطفال بلدة المنجم، يطاردونه على مدار الحكي، حيث سيندهش السارد لوقوفه المفاجئ على عتبة الوكالة البريدية عند انتهائه من قراءة ظهر الصورة التي تجمعه بزوجته، وكأنه يريد أن يوصل له رسالة أخرى وهي ها أنا ذا، فلتقارن بين الذي كان والذي أمسيت عليه بفعل صروف الزمن.
” آلمني حبيبي أن أذبل أنا ياسمين في تراب سهول بعيدة وحيدة، أداري فقد “لارا” وألوك مرارة قرارك الجائر…
ألمتني حافة المكتب الحادة، كما تعثرت بالكرسي مرتين، وأنا أحث الخطى نحو الباب عساي أهتدي ببصيص ضوء إلى الشاخص أمامي في الصورة…تسمرت مكاني مذهولا مما رأيت، عيناي على المنتصب على دكة الباب الذي نسيت أن أوصده، في حين كانت عيناه على ما اقترفته يداي…يا إلهي؟ أحيوض أو السهلي، اسمان لمسمى بين الماضي والمآل (3).
  ويكشف توالي السرد في الرواية، عن إمعان الكاتب في وصف قساوة الجبل، وانعكاس ذلك على شخوصه، مما حولهم إلى كائنات مثقلة بالحزن والألم جراء الفقد، ثم توقف الحياة في البلدة، إثر قرار ” طائش بتوقيف المنجم… لتتوقف معه الحياة…” (4). مما أجج دواخل الشخوص بفعل مقاومة الحصار من جهة، وبفعل  ما تركه الرحيل الجماعي من فقد  في نفوس من بقي من جهة ثانية.
  ومع تواصل الحكي في الرواية، سيوظف الكاتب تجربته ورؤيته الخاصة في إدارة آليات الكتابة بين ما هو تخييلي وما هو واقعي، وفي حسن تدبيره لمقروئه المسرحي والروائي، مما أفضى إلى تجسير سلس بين السرد والمسرح، بين تراجيديا دفن “انتجون” ، وتراجيديا طمر “لارا” ابنة السهلي تحت أنقاض المنجم ذات رحلة مدرسية.   
 لقد حاول أبو العلا نقل معاناة شخوص أعلى الجبل وأسفل المنجم، معتمدا أسلوبا يميل إلى البساطة تارة، وشعرية القول النافذة إلى المعنى المطلوب تارة أخرى، حيث تجربة الكتابة عنده ناضجة ومتطورة، ومستمدة أسسها من تقنيات الكتابة المسرحية التي تعتمد التشخيص والتجسيد. كما اكتسبت الواقعية في رواية “حين يزهر اللوز” لأبي العلا، طابعا تراجيديا، تجلى في محاولته المزدوجة استرجاع واقع شخوصه مع إعادة تمثيله، نجد ذلك في بعض المقاطع، نظير قوله:
ـ  كنت أتعجل شروعه في تشخيص وشت كل الأمارات بأنه خلق له، في حين كان هو يؤجل ذلك بفاصل حكي مؤلم، وفاء لرفيق ركحه محمد السهلي أو أحيوض….
ـ على رسوخ كعب السهلي في المسرح كان الرجل ميالا للسرد” (5).
 بدت لي العبارة مدخولة بخطاب متعال عن فهوم من هم على شاكلة موحى الشاوش، الذين قد تكون لهم مواهب فطرية في التشخيص، لكن أن ينطق بما ينم عن وعي مسرحي واصف، فهذا ربما من باب مجاراتي بما امتاحه من مسموع كان في زمنه متداولا” (6).
من هنا فأبي العلا في هذه النصوص يؤكد على ضرورة ترهين المحكي مسرحيا، وهذا ليس بالهين، بل احتاج منه إلى الوعي بهذا التشابك، وبالإحاطة بكيفية التعاطي معه، من زاوية نظر واقعية متصلة بخصوصية تراث وهوية المنطقة، التي اضطلع بها الحكي، يقول في كتابه “المسرح والسرد”:
” يشغل الحكي في مسرح ما بعد الدراما حيزا مغريا بالتفكير والتساؤل، وذلك في ضوء ما تحقق في شمال المتوسط من أطروحات عابرة نحو جنوبه، مما يطرح على كاهل البحث عندنا معاينة ما تحقق هناك من منجز باذخ، بعد الانعطاف تلقاء السرد…” (7). كما يؤكد على حاجتنا إلى منسوب كاف من الوعي بخطورة ترهين المحكي مسرحيا، ونحن ننعطف به من دائرة احتضانه في خطاب سردي متاخم(الرواية)، وما اقترحته السرديات في هذا الباب من مفاهيم وأسئلة مواكبة… ” (8).
يتضح من خلال قراءتنا لرواية “حين يزهر اللوز” للكاتب المغربي محمد أبو العلا، أن رهانه على التجريب الروائي، اتخذ مسارا واقعيا، من خلال خوض محكيه في عوالم أوسع، وانتقاله السلس من التسريد إلى التجسيد في محاولة منه لنقل معاناة أهل الجبل عبر حكاية بطل الرواية “ساعي البريد” في منطقة ثلجية ومنجمية معزولة عن العالم.
المراجع:
ـ حين يزهر اللوز، رواية، محمد ابو العلا، دار الفاصلة للنشر، الطبعة الأولى، 2020.
ـ المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة، د. محمد أبو العلا، فالية للطباعة والنشر والتوزيع”ط1، 2018
الهوامش:
  1. حين يزهر اللوز، رواية، محمد ابو العلا، دار الفاصلة للنشر، الطبعة الأولى، 2020.
  2. رواية حين يزهر اللوز، ص: 53
  3. رواية حين يزهر اللوز، ص: 54
  4. حين يزهر اللوز، محمد أبو العلا، ص22
  5. حين يزهر اللوز، محمد أبو العلا، ص: 64.
  6. نفسه، ص: 64.
  7. المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة، د. محمد أبو العلا، فالية للطباعة والنشر والتوزيع” ط1، 2018.ص:49.
  8. المسرح والسرد، نحو شعريات جديدة، ص: 50.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(°) كاتب وناقد مغربي صدرت له مجموعة من الأعمال منها مجموعة “النقش على الحجر” وروايتي “هواجس الضياع” و”دروب التيهودراسة نقدية “سرديات معاصرة، قراءات في السرد المغربي المعاصر” .

 

error: