في ذكرى رحيله المفاجئ: عبد الإله حبيبي الباحث عن المعنى وسط متاهات السؤال ومعضلات القلق
190
شارك
أحمد بيضي
رغم الذاكرة ودلالاتها في ظل الغياب، يحق لنا أن نتساءل أولا: هل غادرنا عبدالإله حبيبي حقا؟ أم أن جسده هو الذي رحل بينما بقيت أفكاره بيننا؟ الإجابة تؤكد أنه حي بأفكاره في أوساطنا، ونحن جميعا ندرك كيف صارع الموت في أحد مستشفيات الرباط حتى أغمض عينيه كشهيد سقط بعد قتال طويل، وذلك فجر التاسع من يونيو 2024، دون سابق إنذار، وفي غفلة من أسرته ومحبيه وزملائه، واحتضنته مقابر بعيدة عن عبق تراب قلعته الزيانية الحمراء، والمؤكد أنه في ظروف وفاته ما كان يستدعي فتح ما يلزم من التساؤلات لولا الإيمان بقانون الموت.
من أين نبدأ الحديث عن فقيدنا عبد الإله حبيبي؟ هل من صداقة امتدت بيننا على مدار أربعة عقود، أم من العلاقة الوطيدة التي جمعت المرحوم والدي المقاوم للاستعمار الفرنسي، بوالده الذي قاتل ضد الغزو النازي الألماني؟ أم من حبيبي المناضل في الصفوف الطلابية حين سجلته الشرطة في لائحة “المشاغبين” قبل أن ينخرط في نضالات “ظهر المهراز”، و”الأوطم” وصراعات الفصائل والفلسفة؟ ثم كيف أحدثكم عن مقاله عني، حيث روى معاركي الإعلامية خلال سنوات الرعب، وما جمعنا من مواقف ومحطات ونضالات ضد طواحين القمع التي لا تشبه في شيء طواحين دون كيشوت التي تحيط بحياتنا اليومية؟.
هل نبدأ من هنا أم من حياة عبدالإله حبيبي الممارس لمهنة التدريس والتأطير التربوي، والباحث الذي يتقن فن الحوار والتواصل الفكري والاستغوار السياسي، والأستاذ الفيلسوف الذي كان من الداعين الأوائل لتخصيص “يوم وطني للفلسفة”؟ وهل نتحدث عن حبيبي المناضل اليساري في صفوف حزب القوات الشعبية عندما ظل ثابتا في زمن معجون بالردة والفساد..
حتى عندما حملته الانتخابات عضوا في بلدية المدينة، ظل معانقا لمواقفه ضد مستهلكي الشعارات والقوالب الجاهزة، وبقي صامدا أمام الإغراءات والمؤامرات والمساومات وأساليب الترهيب والتشويه، مستندا إلى تجربته العميقة ومرجعياته الفكرية التي تمنح المثقف السياسي شجاعة صناعة وتوجيه الأحداث التاريخية، وقد كتب يوما في موضوع “الحقيقة والألم”: “ليس صراخ الشوارع إعلانا عن تحرير الحقيقة، الحقيقة تقال همسا في صمت القلوب الذبيحة، ولا ترقص انتشاء تحت أضواء الكاميرات…”
ألا نجد في كل هذا ما يؤكد أننا أمام رجل استثنائي، مفكر عميق، ومشاكس يخوض مغامرات فكرية بعزيمة المخضرم؟ بل إنه بطل رواية “بيوس: طفل الحكمة والطقوس” التي شكلت مرآة لجيل كامل، لأمكنة وأزمنة متعددة، وأيضا جزءا من سيرته الشخصية، حيث “بيوس” هو “الطفل الذي ولد عند تقاطع الأسئلة واللغات: فرنسية مدرسة الاستقلال، وعربية الحكيم، وأمازيغية الجدة”، على حد ما كتبه عنه محمد العناز، طفل وجد نفسه في مواجهة رهانات مختلفة، ألزمته بتحديد موقفه قبل التوجه إلى المستقبل، وهنا أستذكر يوم سأله الكاتب عبدالله المتقي عن الحب، فأجاب عبد الإله حبيبي بأن “الكتابة هي الأنوثة داخل الإنسان، لأن من يكتب يلد ويتخلى عن ذاته وكل السلطات”، مضيفا: “حين نتحدث عن الحب، نصبح ذلك الكائن الهش، خاصة حين يكون حبا يدفع للبكاء وقريبا من الحريق”.
إنه صاحب رواية “سيرة الجندي المجهول”، حيث جسد حكاية جندي مغربي في الحرب العالمية الأولى، حينما تم تجنيد الشباب المغربي وإقحامهم في حروب مطلع القرن العشرين، هنا تبرز شخصية “البطل عبدالله”، الذي يمثل شبابا عاشوا ظروفا قاسية طبعها الحرمان والظلم والفقر والمجاعة والوباء، جيل وجد نفسه في جبهة القتال يواجه الموت في غربته، ومنذ صدور هذه الرواية، لم يلحظ أي ناشر أو ناقد أن شخصية البطل، عبدالله، هي في الحقيقة والد فقيدنا عبد الإله حبيبي.
من “سيرة الجندي المجهول” إلى “بيوس: طفل الحكمة والطقوس”، و”نحيب الأزقة”، و”حوار العقل والروح”، و”رفيق السفر في زمن الضجر”، مرورا بديواني Les Paroles de Mon Village وMémoire de l’éternel، يبقى السؤال: من أين نبدأ مع الكاتب المتعدد عبد الإله حبيبي؟ تارة نجد فيه فيلسوفا يغوص في أسئلة الفكر العميقة، وتارة شاعرا معانقا القصيدة، وعندما نكتشفه عازفا على آلة الوتر نندهش من عشقه الخفي لتقاسيم الموسيقى والفن الأمازيغي، وكذا في السياسة يسحرك بتحليلاته ورؤاه، وحتى في جلسات المزاح والتنكيت، يقضي معك وقتا ممتعا، إنه مبدع ومنتج أدبي ومثقف يكتب بروحه، يستخرج من ذاكرته تفاصيل الطفولة، ويستفز الكائنات والأحلام التي تسكنه وتسكننا.
وحول تكوينه في بلدته مريرت، أفصح قائلا إن هذه البلدة تسكن ذاكرته باستمرار، وإن أجمل ما منحته له هو الزقاق الذي نشأ فيه، وحكايات مناجم عوام وهضاب آيت سكوكو، والحياة التي جمعت بين تنوعات بشرية مختلفة بعاداتها وتقاليدها، حيث “لم تكن هناك كواليس على القيم”، ويستعرض ذاكرته العائدة إلى الأزقة القديمة، وإلى الجبل كملاذ للحرية والانفراد، ليغوص عميقا في الأيام الماضية، في رحلته من البيت الطيني إلى البيت الإسمنتي، حينما لم يكتمل حلم الطفولة بسبب الظروف التي أجبرته على مغادرة بلدته لمتابعة دراسته الثانوية، هنا عاش بين أحضان خنيفرة، وواكب مراحل هامة من تاريخها وتناقضاتها الاجتماعية.
وعن روايته “نحيب الأزقة”، تحدث عبد الإله حبيبي عن التصالح الذي تمكن من تحقيقه عبر السرد والحكي في سيرته الذاتية، وكيف أسهم هذا الأسلوب في توظيف نبضات المدينة وأحداثها، بما في ذلك موجة الاعتقال السياسي التي اجتاحت المدينة خلال سبعينيات القرن الماضي، وشخصية محمد رويشة كفنان ثائر ومحب، كما كشف عن الحصار الذي ظل مضروبا على هذه المدينة حتى أدمجت كلياً في الحياة المغربية، وأظهر حبيبي في ذلك جرأة كبيرة في التعبير وبأسلوب بعيد عن المزايدات.
لم يغفل عبد الإله حبيبي، في كل لقاء، عن التعبير عن أمله في “أن تضع الحروب أوزارها، وأن ينتهي العنف والقتل في العالم لصالح إنتاج خطاب يسكت المدافع ويمد طاولات الحوار”، كما عبر عن إيمانه بضرورة أن تسهم الكتابة الإبداعية في نشر الدفء بين البشر”، حيث عاش بين طرفي الكتابة والحياة كالمغامر الذي يسير على أطراف الصخور دون خوف من السقوط، هكذا كتب ذات يوم عن صديق سأله عن الأبدية التي تحتفي بها قصائده: هل يمكن لها أن تتجلى أو تنكشف؟ فجاء جواب حبيبي مختصرا ومعبرا للغاية:
“يمكننا أن نجده في انهمار المطر، وهبوب الريح، وصمت القمر، وقلوب العاشقين، وهشاشة الراحلين وهدوء المقابر، وفراغ الطرقات، وانسياب الأفق نحو اللانهايات… في مآقي اليتامى، على جدران خراب الحروب، على أبواب البيوت المهجورة“.
في كل مناسبة فلسفية، يكون الفقيد عبد الإله حبيبي حاضرا لتجديد حبه للحكمة والكلمة، ولتعزيز النقاش الفلسفي، واحترام التنوع وكرامة الإنسان، وتسليط الضوء على مساهمة المعرفة الفلسفية في معالجة القضايا العالمية، وفقا لنداء اليونسكو التي خصصت يوما للاحتفاء بالتفكير الفلسفي في جميع أنحاء العالم، وبقيم التسامح والاختلاف.
لقد تحول الفكر الفلسفي، في نظر الراحل، إلى فعل يومي وممارسة حياتية لا تنفصل عن هموم الإنسان المعاصر وتحدياته، فقد آمن بأن الفلسفة ليست ترفا ذهنيا، بل أداة فعالة لتحفيز التحول داخل المجتمعات، ولإرساء ثقافة الحوار والانفتاح على تعدد الرؤى والتيارات الفكرية عبر العالم، من خلال دعوته المستمرة إلى تفعيل التفكير النقدي ومقاربة الآراء بروح عقلانية، كان يسعى إلى إرساء أسس مجتمع أكثر تسامحا وقدرة على التعايش في ظل تنوعه الثقافي والفكري.
في مسيرته الفكرية والإنسانية نجد في الفقيد حبيبي مزيجا بين الذاتي والموضوعي، والفردي والكوني، والبحث عن المعنى وسط متاهات السؤال حول أصل المحسوس والمعرفة والعقل الإنساني، أتذكر مداخلة له انطلق فيها من حزمة من التساؤلات: “ماذا نريد من وراء الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة؟ وعما نبحث؟ ولماذا ندعو الناس للاستماع إلى الفلسفة؟”، واصفا مدرسي الفلسفة “بأنهم المعنى العميق، وواصفا الوجود بترك أشياء لأجل أشياء أخرى قد تمنحنا قوة لكينونتنا”.
إن تخليد ذكرى رحيل رجل مثل عبد الإله حبيبي ليس عبثا، فالجميع عرفه كإنسان تجول في عوالم متعددة، وإن كان القدر فرض عليه أن ينشأ في الهامش، حيث نعلم كم من الأقلام والكفاءات لم يلمع نجمها بما يكفي بسبب هذا الهامش الذي يفرض عليك الصراع من أجل البقاء، وتجاوز العقبات وقيود الإقصاء والتهميش، وقد أكد حبيبي يوما أن “الكائن البشري لا يمكن له التقدم في مسيرته الحضارية دون إعمال العقل لفهم قوانين الطبيعة والمجتمع“.
في يوم من الأيام قال: “إن الحياة البشرية تتطلع إلى إنسان عالمي وأرضي، وليس إنسان القبيلة أو المنطقة أو الحدود، طالما أن الوجود في حاجة إلى شيء ما”، ولم تغب عنه، بنظرته الفلسفية، أن الفلسفة هي “البحث عن جواب للأشياء والأسئلة الجوهرية، والخطاب القابل لأن يفهم ويتميز عن باقي الخطابات، لأننا كلما تعمقنا في التفكير، نجد أنفسنا أمام إشكاليات تلقي بنا في معضلات مقلقة وانهيارات معقدة“، وبينما كان حبيبي في جميع جلساته يدعو للتعايش الفكري في إطار يصون الفكر الحر والمبدع، ظل يؤمن بالحوار بين الأديان والثقافات على قناعات راسخة بأن التاريخ لم يكن فقط تاريخ صراعات.
وحين انتقل إلى تطوان كمفتش لمادة الفلسفة، كان كمن يشبه اللقلاق الذي غادر عشه، وكتب رسالة عن الـ 21 سنة التي قضاها في مهنة التفتيش بين جبال الأطلس الصامتة، حيث “كان السفر المستمر بلا انقطاع هو اللقاء، أو حدث اللقاء بالناس، بالطبيعة، بالجغرافيا، وبالتاريخ المنقوش على صخور ترافق هدير المحركات وصوت العجلات، وفي الصمت المطلق أحيانا، حيث تعزف هذه الأشياء لغة خاصة كأنها لحن يأتي من وراء التعب والحلم والترحال”، وعبر وقتها عن “سعادته بكل هذا الزمن الذي قضاه وهو يطارد شبح أفلاطون بين التلال، فوق الربوات وعلى قمم الجبال وأحياناً بين كثبان السراب (…) يرتب دوما حقائبه لينطلق بحقيبة وخاتم توقيع وكراسة”.
رحم الله من قال: “ليس المهم أن يصير البحر حلوا، بل المنتظر أن يشرب البحر من هذا الماء لعله يشفى من كبريائه التي تجاوزت ملوحتها طعم البحر”، وقال أيضا: “لولا الحب لما كانت الحياة عنيدة في البقاء”…