عندما تَعانق “بابا عيشور” و”بابا نويل” في مسرحية “الباباوان” بخنيفرة لأجل إنسانية تتسع للجميع وتنتصر لقيم التعايش

197
أحمد بيضي
حققت فرقة “مسرح الحال” حضورا فنيا بارزا في المشهد الفني المغربي من خلال مسرحيتها “الباباوان”، التي جابت مدنا متعددة بالمملكة، بعد سلسلة عروض ناجحة، قبل وصولها لجهة بني ملال خنيفرة في زيارتها لمدن خريبكة، تادلة، أزيلال، وبني ملال، لتحط رحالها يوم الأحد 25 ماي 2025، بخنيفرة، حيث قُدم العرض أمام جمهور متعطش للفن المسرحي، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وشراكة مع مسرح محمد الخامس، وتعاون وثيق مع المديرية الجهوية للثقافة والشباب بالجهة، في خطوة تروم ترسيخ فعل مسرحي موجه للأطفال، دون أن يغفل البعد الفني والجمالي المطلوب في هذا النوع من الإنتاجات.
مسرحية “الباباوان”، التي تم عرضها في ضيافة “المركز الثقافي أبو القاسم الزياني”، بخنيفرة، لم تكن مجرد عرض ترفيهي عابر، بل جاءت في صيغة إبداعية فريدة، تعكس حرص فرقة “مسرح الحال” على تقديم محتوى إنساني عميق، في قالب فني قوي ومشوق، يرتقي بذوق الأطفال، ويخاطب خيالهم، ويستثمر قدرتهم على التأمل والتفاعل، فمن خلال ثنائية “بابا عيشور” و”بابا نويل”، تسعى المسرحية إلى فتح باب التأمل أمام المتلقي، سواء أكان طفلا أو يافعا أو راشدا، حول معاني العطاء، والتسامح، وقيم السعادة والمحبة، وكيفية فهم الآخر والتعايش معه، من خلال قصة ممتعة تجمع بين البعد الشعبي المحلي والرمزية الكونية.
المسرحية تروي حكاية شابين يتيمين، “سعد” و”نورا”، يشتغلان في فنون “الحلقة” والعروض الاستعراضية، ويحملان في دواخلهما رغبة عارمة في الانتماء إلى عالم من الحكايا، حتى يجدان نفسيهما وجها لوجه أمام شخصيتين متقابلتين في الموروث الثقافي والديني، “بابا عيشور”، القادم من عمق التراث المغربي الأمازيغي، والذي يمثل موسم عاشوراء بما يحمله من طقوس شعبية تميل إلى الاحتفاء بالتمر والفواكه الجافة، و”بابا نويل”، الرمز الغربي المتألق في أعياد الميلاد ورؤوس السنوات الميلادية، والذي يمنح الأطفال الهدايا والأحلام والفرح، هذا اللقاء يتحول إلى صراع حول من الأحق بإسعاد الأطفال والناس.
ما يجعل “الباباوان” عملا مسرحيا متمايزا ليس فقط في بنائه الدرامي، بل كذلك في إبداعه الإخراجي الذي وقّعه الفنان عبد الكبير الركاكنة، أحد الأسماء البارزة في مجال مسرح الطفل بالمغرب، والذي اختار أدوات إخراجية دقيقة تستحضر المؤثرات الصوتية والبصرية، وتستثمر الإضاءة الملونة، والملابس التراثية الغنية، لتأثيث فضاء الفرجة بأبعاد جمالية تسحر الطفل وتحفزه على التفاعل، أما النص، الذي كتبه سعيد غزالة، فكان محكما في لغته، غنيا في رموزه، قريبا من الطفل دون أن يتنازل عن العمق والمعنى، فجاءت الحوارات بلغة مغربية مبسطة وواضحة المخارج، دون تفكك أو غموض، تساعد الطفل على استيعاب الفكرة وتمثلها دون عناء.
ومن الملاحظ أن الطرح الذي تقدمه المسرحية يذهب بعيدا في توظيف الرموز الثقافية بشكل ذكي ومدروس، ف “بابا عيشور”، بزيه المغربي التقليدي، يقدم للطفل المغربي مرجعا بصريا مألوفا، في حين أن “بابا نويل”، بزيه الأحمر ولحيته البيضاء، يستحضر في ذهن الأطفال صورة “الزائر” الذي يأتي محملا بالهدايا الجميلة، هذا التناقض الظاهري بين الشخصيتين يتحول على الخشبة إلى تكامل جوهري، حيث تنكشف لهما في النهاية الحاجة إلى الحب كقيمة موحدة، وإلى الإنسانية كأرضية مشتركة تتجاوز الدين والجغرافيا والتقاليد، حيث تطور الصراع إلى مصالحة تدعو إلى التعايش ونشر السلام، وتوحيد الأعياد حول قيم المحبة.
العرض المسرحي لم يكن لينجح لولا أداء الممثلين الذين أضفوا على الشخصيات حيوية خاصة، حيث تألق عبد الكبير الركاكنة، وسعيد غزالة، وهند ضافر، وخالد المغاري، في تجسيد أدوارهم بصدق وتلقائية، تحت إدارة تقنية متقنة أشرف عليها خالد الركاكنة، ومساعدة إخراجية لعزيز الخلوفي، كما أن المشاهد لم تخل من التشويق، مع الحرص على استخدام تعبيرات جسدية ورقصات إيقاعية تغني الفعل المسرحي والمشاهد البصرية، ما جعل الأطفال يتابعون العرض بشغف، ويندمجون في فصوله، ويضحكون على مواقفه الكوميدية الهادفة التي لم تتجاوز الذوق أو تستخف بقدرة الطفل على الفهم والتحليل.
لا شك أن هذه المسرحية تضيف لبنة قوية إلى رصيد المسرح المغربي الموجه للطفل، حيث تجمع بين الجرأة في الطرح، والجدية في المعالجة، والجاذبية في الأسلوب، وهو ما يعزز من حضور مسرح الطفل كأداة تربوية فعالة، بل كمجال لصناعة الخيال الواعي الذي يحتاجه الجيل الجديد في مواجهة موجات التغريب، وسطوة الوسائط الرقمية، والتحديات القيمية التي يفرضها العصر، فـ “الباباوان” ليست فقط مسرحية للفرجة، بل دعوة مفتوحة لفهم العالم من زاوية الأمل في إنسانية تتسع للجميع، وتنتصر لقيم الخير، وتحرر الطفولة من رتابة الواقع، وهي التي انتهت بضرورة جعل الانسانية توحدنا جميعا مادامت السعادة يلزمها الحب والحنان والأمان.
 وبذلك، يثبت عرض “الباباوان” أنه تجربة قابلة للتوسع والاحتضان وطنيا ودوليا، وقد تجسدت قيمة التفاعل مع العرض حين اندفع “الجمهور الناشئ” بعد إسدال الستار ليلتف حول أبطال العرض، في رغبة جماعية لالتقاط الصور التذكارية، ولم يفوت الفنان عبد الكبير الركاكنة الفرصة ليضم صوته إلى صوت الشارع الثقافي بخنيفرة، في دعوة واضحة للجهات المسؤولة من أجل التفكير الجاد في إنشاء قاعة مخصصة للعروض المسرحية بالمدينة، تكون فضاء دائما يحتضن مثل هذه المبادرات الفنية الراقية، ويؤمن للطفولة حقها في الفن، كما يكرس المسرح كرافعة ثقافية أساسية لبناء مجتمع أكثر انفتاحا على القيم الإنسانية النبيلة.
error: