نخبة فكرية تلتئم في ضيافة “الأنصار” بخنيفرة لتفكيك سؤال الحرية بين الفلسفة والعلم

49
  • أحمد بيضي
استضافت “جمعية الأنصار للثقافة”، بخنيفرة، يوم السبت 17 ماي 2025، ندوة فكرية تحت عنوان “سؤال الحرية بين الفلسفة والعلم“، بمشاركة ذ. عبد الرحمان كرومي بمداخلة حملت عنوان “الحرية الإنسانية بين التوظيف الأداتي لنتائج العلوم والحاجة الإنسانية الأصيلة لفهم العالم”، وذ. رحو اليوسفي الذي ناقش موضوع “إشكالية سؤال الحرية بين العلم والفلسفة: الحرية كمشروع لا يكتمل”، كما قدمت ذة. فدوى الشاهد من جانبها قراءة لورقة ذ. محمد هاشمي حول “الحرية بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصاد”، وقدم ذ. أيوب علوي بدوره قراءة في ورقة ذ. عبد الرحمان حلال بعنوان “العلمية واللاعلمية أو الحتمية واللاحتمية بين ميكانيكا نيوتن وفيزياء الكوانطا”.
ماذا نريد من الفلسفة؟
اللقاء، الذي احتضنه “المركز الثقافي أبو القاسم الزياني”، وقام بتنسيقه ذ. كمال الكوطي، وتسييره ذ. المصطفى تودي، شهد حضورا نوعيا متميزا، عكس عمق التفاعل مع موضوع الندوة، وقد اتسمت الجلسة بنقاشات تفاعلية ثرية، أبرزت الانشغال الحقيقي بقضايا الفلسفة وأسئلتها الجوهرية، وخلال تسييره لأشغال اللقاء، وجه تودي دعوة صريحة إلى مدرسي الفلسفة بضرورة العمل على تبسيط المعارف الفلسفية وتحويلها إلى خلاصات قابلة للاستيعاب من طرف التلميذ، واضعا نصب الأعين سؤالا محوريا: ماذا نريد من الفلسفة؟ وما هي الحاجة الحقيقية إليها في حياتنا؟ مؤكدا على أن لا يمكن للإنسان أن يكون حرا ما لم يكن حرا في تفكيره.
افتتح عبد العزيز ملوكي، رئيس جمعية الأنصار للثقافة، أشغال الندوة الفلسفية، مستعرضا المسار الثقافي الذي اختطته جمعيته منذ تأسيسها، ومجددا التزام هذه الجمعية بخطها المدني، وسعيها المتواصل إلى خدمة الشأن الثقافي من خلال تنزيل واحتضان برنامجها الجامع بين مختلف الأجناس الإبداعية، ولم يفته التذكير بتتويج الجمعية بميدالية ذهبية من العاصمة المصرية، متوقفا عند دلالات الندوة الفلسفية التي تنبع، بحسبه، من قناعات وتساؤلات جوهرية تدفع الإنسان إلى مساءلة مفهوم الحرية المتعدد، وبينما أكد أن الثقافة هي القاطرة الحقيقية لأي مشروع تنموي، لم ينس، في لحظة مؤثرة، استحضار روح الأديب والفيلسوف الزياني الراحل عبد الإله حبيبي.
الحرية بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصاد
من جهتها، شاركت ذة. فدوى الشاهد في أشغال هذه الندوة بقراءة لورقة علمية أعدها ذ. محمد هاشمي، تناول فيها موضوع “الحرية بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصاد”، مقاربا هذه القيمة الإنسانية المركزية من منظورين علميين متكاملين، هما علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصاد، مع اعتباره الاقتصاد علما أخلاقيا بامتياز، يستوجب “إعادة التفكير في دلالاته وأبعاده ضمن السياقات الراهنة”، وركزت المداخلة على تجاوز المقاربات الكلاسيكية التي “تحصر الحرية في بعدها السياسي، داعية إلى الانفتاح على قراءات بديلة تدمج البعد النفسي والسوسيو-اقتصادي، وتراعي التداخل بينهما”.
ذلك في حين يرى رواد علم النفس الاجتماعي، من أمثال هربرت ميد وجون ديوي، حسب الورقة، أن الحرية تفهم باعتبارها “شعورا بالتوق إلى الاعتراف المتبادل والتعامل دون تمييز”، بينما منظري الاقتصاد يربطون الحرية بإمكانية الفعل داخل السوق، أي بقدرة الفرد على الاستهلاك والمبادرة، حيث يعد “حرا” من يستطيع اختيار وشراء ما يشاء، بينما أبرزت ورقة هاشمي طبيعة الصراعات الاقتصادية والتجاذبات الاجتماعية، وضعف التوازنات الاقتصادية، في تشكيل تجليات الحرية وحدودها الواقعية، كما تم “التمييز بين الإيتيقا كمجال للفكر النقدي والتأملي، ومبحث الأخلاق الذي يُعنى بتوجيه السلوك، مع إبراز كون الاقتصاد لا ينفصل عن هذه المنظومة”، وهو جزء منها.
كما قدمت الشاهد تصورات جون ديوي حول الاقتصاد، معتبرة إياه تصورا منفتحا على أحكام القيمة والتأمل الذاتي، حيث “لا وجود لقوانين ثابتة غير قابلة للتغيير، بل إن الواقع يفرض باستمرار إعادة النظر في المفاهيم”، وتم التأكيد على دور المدينة كفضاء يعكس الواقع المتحول، وعلى مركزية العلوم الإنسانية في بناء إنسان حر ومتساوٍ، وفي سياق التطورات التكنولوجية، أثارت الورقة قضية حرية الفرد في ظل الهيمنة الإشهارية، مشيرة إلى أن الإنسان المعاصر “لم يعد مجرد مستهلك، بل كائن تصاغ اختياراته أحيانا خارج إرادته، من هنا، تطرح الحرية كإحساس سيكولوجي، وكحاجة اقتصادية، تتداخل فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية”.
الحرية الإنسانية بين التوظيف وفهم العالم
بدوره، قدم ذ. عبد الرحمان كرومي ورقة علمية موسومة بعنوان “الحرية الإنسانية بين التوظيف الأداتي لنتائج العلوم والحاجة الأصيلة لفهم العالم”، تمحورت حول ثلاث قضايا رئيسية، الحرية كصفة إنسانية أصيلة، وتحول العلم من منطق المعرفة والفضول إلى منطق الاستغلال، ثم دور الفلسفة والعلم في تحقيق الحرية الإنسانية، حيث انطلق المتدخل من خلفية فلسفية وإبستيمولوجية استند فيها إلى نماذج فكرية بارزة في تاريخ العلوم، على رأسها جورج كونغليهيم، طوماس كوهن وغاستون باشلار، مبرزا “كيف شكل العلم منعطفا حاسما في تطور المعرفة الإنسانية، لكنه أصبح في العصر الحديث رهينا لتوظيفات تقنية وأداتية ضيقة تفقده طابعه التحرري الأصيل”.
ولم تغب عن ذ. كرومي إشارات عميقة إلى أعمال جون بول سارتر وميرلوبونتي، اللذين أكدا أن الحرية ليست فقط حقا، بل شرطا لوجود الإنسان ذاته، إلى جانب مقاربته الهيدغيرية الفينومينولوجية في نقد التقنية، باعتبارها “تجريدا للإنسان من حريته عبر تحويله إلى موضوع في آلة التحكم الشامل، كما يحصل اليوم في خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي التي تستثمر لتوجيه السلوك والوعي الجماعي”، كما تطرق إلى النقد الجينيالوجي لأصل العلم، داعيا إلى “التحرر من النزعة التي تختزل الإنسان في قوانين رياضية أو تفسيرات ميتافيزيقية سادت في القرن التاسع عشر مثل الحتمية والسببية”.
واعتبر كرومي أن المعرفة العلمية، إذا ما تحررت من التوظيفات الإيديولوجية والسياسية، يمكن أن تكون شرطا لتحرر الإنسان، خاصة في ظل هيمنة الشركات العابرة للقارات التي توجه البحث العلمي لخدمة مصالحها، كما تجلى ذلك بوضوح “خلال جائحة كورونا، حيث كانت الكلمة العليا للسياسيين وليس للعلماء، مما يعكس نوايا استثمار العلم للهيمنة على العالم وإعادة تشكيل خريطته الاقتصادية”، كما طرح المتدخل تساؤلات حول “إمكانية التحرر في غياب العلم”، مؤكدا أن الحرية ترتبط بالوعي، ليختم مداخلته بالدعوة إلى “إعادة الاعتبار للعلم والفلسفة، كأداتين رئيسيتين لتحرير الإنسان، في مواجهة التحديات المتزايدة المرتبطة بالتحكم في الوعي والوسائط الرقمية”.
 الحرية بوصفها مشروعا مستمرا
في مداخلته حول “الحرية بوصفها مشروعا مستمرا”، قدم ذ. رحو اليوسفي قراءة لسؤال الحرية في علاقته بالإنسان والمعرفة والعلوم الكونية، منطلقا من قناعة كون عصرنا “لم يعد يقبل بالجاهز، ولا باليقينيات المطلقة، بل أصبح الإنسان مدفوعا إلى مساءلة المفاهيم الكبرى من منطلق علمي وفلسفي”، حيث انطلق المتدخل من التحولات التي عرفها تصور الإنسان للعالم، مستحضرا كيف ميز أرسطو بين عالمين، عالم ما فوق القمر، وعالم ما تحته، قبل أن يأتي كوبرنيك ليقلب هذا التصور، ويؤسس لفكرة كون موحد، لا مكان فيه للتمايز بين العوالم، وهو “ما كان له أثر بالغ على التفكير في المساواة والحرية”.
واعتبر اليوسفي أن “الإنسان ليس حرا كما يتوهم، فوجوده مثلا داخل الجماعة يجعله يميل إلى التقليد والامتثال دون أي شك في ذاته”، وهو ما يجعل “سؤال الحرية يتقاطع اليوم مع علوم الدماغ، الأعصاب، الاجتماع والفلك، التي تكشف كيف أن ما نعتبره “اختيارا” قد يكون في كثير من الأحيان خاضعا لتفاعلات عصبية أو اجتماعية لا نعيها”، وساءل اليوسفي قدرة الإنسان على التمييز بين الوهم والحقيقة في إدراكه لذاته ولمجتمعه وللعالم، مؤكدا أن “العلم والمعرفة يمثلان القوة الحقيقية التي تتيح له بناء حريته، فـ “الحرية ليست جاهزة، بل تبنى”، وهي ليست منحة أو هبة تورث، وإنما جهد دائم وشغل لا ينقطع”.
ومن خلال مداخلته، استعاد اليوسفي تصور أوغست كونت حول الإنسان باعتباره مركز الوجود، لكنه سرعان ما عاد ليؤكد أن هذا الإنسان، رغم مكانته الرمزية، لا يزال “كحبة رمل في كون شاسع”، يبحث عن معنى لحريته في عالم يتحكم فيه العلم والتكنولوجيا، كما تناول إشكالية الفصل بين العبودية والحرية، مشيرا إلى “أن الحدود بينهما لم تعد واضحة في ظل التحولات المعرفية والتكنولوجية المتسارعة، وهو ما يستدعي تفكيرا جديدا في مفهوم الحرية، كفعل يستلزم توظيف القوانين العلمية”، ليختتم مداخلته بتأكيد أن “الحرية اليوم لم تعد مجرد شعار أو مطلب، بل أصبحت مشروعا معرفيا ووجوديا”، حيث يتأرجح الإنسان دوماً بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
بين ميكانيكا نيوتن وفيزياء الكوانطا
أما ذ. أيوب علوي فقام بقراءة لورقة ذ. عبد الرحمان حلال الموسومة بـ “العلمية واللاعلمية أو الحتمية واللاحتمية بين ميكانيكا نيوتن وفيزياء الكوانطا”، والتي طرحت بإلحاح سؤالا إشكاليا: هل العلم يحرر الإنسان؟ حيث انطلقت الورقة من ملاحظة مفادها أن “سؤال الحرية لم يعد حكرا على المقاربات الفلسفية أو الأخلاقية، بل تسلل إلى بنية التفكير العلمي، لا سيما مع هيمنة العلوم الطبيعية، حيث رسخت الميكانيكا الكلاسيكية النيوتنية نموذجا في تفسير العالم كآلة دقيقة يمكن التنبؤ بسلوكها عبر معادلات رياضية محكمة”، وقد تأسست هذه النظرة على ما يعرف بـ”الحتمية”، أي أن كل ظاهرة طبيعية تخضع لقوانين ثابتة يمكن توقع نتائجها بدقة متناهية.
هذا التصور الذي بلوره نيوتن ولابلاس جعل من الكون، وفق الورقة، “نموذجا مغلقًا وخاليا من الصدفة، وهو ما انعكس على تصور الإنسان لذاته ودوره، باعتباره مجرد جزء من منظومة كونية خاضعة لسلطة القوانين الرياضية، غير أن التحولات التي طرأت على العلم، خصوصا مع ظهور فيزياء الكم”، إذ كشفت ميكانيكا الكوانطا عن “حدود الحتمية العلمية، وطرحت مبدأ اللاحتمية الذي يرى أن الظواهر الكمية لا يمكن التنبؤ بها بشكل يقيني، وإنما تحدث وفق احتمالات متعددة، وهو ما مثّله بوضوح مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، الذي أقر بأن تحديد موقع وسرعة الجسيم في آن واحد أمر مستحيل ليس بسبب عجز أدوات القياس، بل لأن الواقع الكمي ذاته يقوم على الاحتمال”.
كما أشار المتدخل إلى أن هذا التحول “لا يمس فقط الفيزياء، بل يعيد طرح أسئلة جوهرية عن دور الإنسان في الكون، وعن مدى قدرة العلم على تحريره من الدوغمائيات الفكرية”، إذ أن الفيزياء، منذ نشأتها، كانت تسعى لفهم القوى المحركة للعالم، في هذا السياق، بدت نظرية الفوضى أيضا، بحسب الورقة، “عاملا مكملاً لمبدأ اللاحتمية، حيث أظهرت كيف أن الأنظمة الطبيعية شديدة الحساسية للظروف الأولية، مما يجعل التنبؤ طويل الأمد شبه مستحيل”، وختم علوي ورقته بإثارة أسئلة من قبيل: هل يمكن للعلم أن يحرر الإنسان فعلاً؟ هل المستقبل مكتوب في المعادلات؟ أم أن اللاحتمية تمثل بداية جديدة لفهم أكثر تحررا للعالم ولذواتنا؟.
error: