“أغورا” بخنيفرة تعيد تشكيل مسرحية “أصاد” من نص روسي إلى سرد أمازيغي بعيدا عن الفضاءات المغلقة

99
أحمد بيضي
في مساء هادئ من يوم الجمعة 9 ماي 2025، وعلى أرضية رصيف ساحة “المركز الثقافي أبو القاسم الزياني”، بخنيفرة، عانق جمهور المدينة عرضا مسرحيا استثنائيا حمل عنوان “أصاد”، قدمته “جمعية أغورا للإبداع”، في تجربة درامية استثنائية، من حيث الفضاء والمحتوى والرهانات الفنية، وهو مستلهم من النص الشهير “الدب” الذي كتبه الروسي أنطون تشيخوف في فصل واحد عام 1888، وتمكنت “أغورا” من تحميله بنفس أمازيغي هوياتي، وتحويله إلى سردية جديدة تعانق أسئلة الإنسان الأطلسي.
في هذا العرض، تحولت الأرملة “بوبوفا” بلغة تشيخوف إلى شخصية محلية ناطقة بالأمازيغية، تجسدها امرأة من التراب الأمازيغي، حيث الوفاء ينتقل بسرعة إلى ساحة صراع داخلية وخارجية، عندما يطرق بابها رجل يأتي لاستخلاص دين، فتنقلب الموازين وتنفجر المشاعر وتكشف الأسطورة الزائفة ل “أصاد”، ذاك “الوحش الأسطوري” الذي وصفه المخرج عبد الله شيشة في إحدى تدويناته بأنه “مجرد بشر يغلفه الخوف والتصور الشعبي، ليصبح رمزا للخرافة التي تورث جيلا بعد جيل”.
المخرج عبد الله شيشة، الذي لم يكتفِ بالوقوف خلف الكواليس بعباءة الإخراج، بل شارك أيضا بدوره في التشخيص، مظهرا قدرة بليغة على توجيه النص نحو أبعاد رمزية أكثر عمقًا، إلى جانبه، تألقت الممثلتان المعروفتان بتجربتيهما المسرحية والتلفزيونية، هاجر ضحى وسعاد شرف، بأداء يستمد من الصدق والاحترافية، إذ تمكنتا من تقديم الشخصيتين النسويتين “ثفوشث” و”عويشة” بصوت داخلي مفعم بالتناقضات، متنقلا بين الألم والتمرد، وبين الماضي والواقع، بين الذاكرة والحرية.
الفضاء الخارجي للعرض أضاف بعدا بصريا مغايرا، حيث تحول رصيف الساحة إلى خشبة مفتوحة، والشارع إلى جمهور متشظ بين عابر ومتأمل، وقد تمت الاستعانة بعناصر من الحياة اليومية للأطلس، مثل الخيمة والأزياء التقليدية، لتأكيد الانتماء لتربة الهوية، وعلى الرغم من غياب قاعة مجهزة للعرض، شكل هذا الانفتاح على الشارع رسالة فنية واجتماعية حملت توقيع “جمعية أغورا” التي تسعى إلى كسر الحواجز بين الفن والناس، وتؤمن بأن المسرح ينبغي أن يُنصت لنبض الشارع لا أن يتقوقع خلف حيطان مغلقة.
ومن قلب “أصاد” كان للموسيقى دور كبير في تشكيل المزاج العام للعرض المسرحي، حيث أضفى أحمد تيسي عبر الإدارة الفنية والموسيقى التصويرية نغمة وجدانية مرافقة لتحولات الشخصيات، بينما أبدع يوسف ركراكي في هندسة الإضاءة والصوت بما يتلاءم مع الحالة النفسية لكل مشهد، مستثمرا الضوء كأداة درامية وليس مجرد عنصر تقني، فيما لعبت الأنفوغرافيا والتوثيق، بإشراف أمين موكيل، دورا كذلك في خلق تواصل جمالي بصري عزز من أبعاد الحكاية على مرمى المتلقي.
على العموم، استطاعت المسرحية أن تنقل جمهورها في رحلة من السخرية إلى الألم، ومن الحلم إلى الواقع، مشيدة حبكةً متماسكة تربط بين الوفاء والخيانة، بين الحب والحرية، وتفتح أسئلة حول موقع المرأة في مجتمع يتغير بسرعة، وحول الإنسان الذي يسكنه الوحش تارة، والملاك تارة أخرى، لقد كانت الرسائل المضمنة في هذا العمل مشبعة بالدلالة، مستندة إلى رمزية مكثفة دون أن تفقد بساطتها أو تواصلها المباشر مع الجمهور الذي استقبلها غير متنكرة بأي لون آخر رغم نقلها من تربة روسية إلى مغربية أمازيغية.
الجمهور بدوره، لم يكن مجرد متفرج، بل كان شريكا وجدانيا في العرض، حيث لوحظ تفاعل عميق من مختلف الفئات التي حضرت، أطفالا وشبابا وشيوخا، وفاعلين ومهتمين بالشأن الثقافي، يتابعون بشغف عرضا يتحدى غياب الفضاءات المسرحية، ويكسر الصمت الذي خيّم طويلا على خنيفرة في هذا المجال، لقد نجحت كتيبة ياسين الحجام، مرة أخرى، في ترسيخ مكانتها كفاعل ثقافي وفني في المدينة، وفي تجديد النداء من أجل إحداث فضاء مسرحي دائم لأبناء خنيفرة يعيد للمدينة بعضا من إشعاعها من أب الفنون الذي ما يزال عالقا.
error: