
الهجرة في الرواية العربية ليست “صيغة سهلة”لافتراس الذات أو الاحتراب مع الاخر أو الاتصال به
احتضن رواق مجلس الجالية المغربية بالخارج الثلاثاء 22 أبريل 2025، تقديم وقراءة أنطلوجيا ” خرائط الهجرة في الرواية العربية” في إطار البرنامج الثقافي لمجلس الجالية المغربية بالخارج، ضمن فعاليات الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط المنظم ما بين 17 و 27 من الشهر الجاري.
ولا يلعب الكل بالقواعد نفسها، في الروايات العربية التي تتناول الهجرة المتعددة الأوجه والوجهات. كما أن كتابها لم يتجرعوا جميعهم الكمية نفسها من الاغتراب الذي يؤسس متخيلهم الروائي . فحينا نكون أمام رويات تجعلنا نشعر بأننا في قلب كازينو لتقطير المخاوف، أو لاستعراض التشوهات السيكولوجية للمهاجر المهزوم أو ممزق الهوية، وحينا آخر يحدث أن ننتقل، مع رويات أخرى، إلى محكي يدفعنا إلى البحث عن قناع أوكسجين ضد الاختناق السياسي الذي يزحف سرديا في كل اتجاهفي نسقه،كما يسجل الكاتب والشاعر حسن نجمى والإعلامي والقاص سعيد منتسب، في تقديم هذه الأنطولوجيا التي أعدها ونسقا فصولها بمبادرة مجلس الجالية المغربية بالخارج، بتعاون مع دار (مرسم) للنشر .
توسع الهجرة
وإذا كانت الهجرة قد اتخذت في عصرنا الراهن، طابعا جديدا يختلف جذريا عن الهجرات الأوربية في القرن السادس عشر، أي تلك الهجرات التي رافقت التوسع الأوروبي في عصر الامبراطوريات الكبيرة، فإن حسن نجمى وسعيد منتسب، ذكرا بأن الهجرات الحديثة التي بدأت بعد عام 1945 ( نهاية الحرب العالمية الثانية )، توسعت بشدة منذ ستينات القرن الماضي، وشملت جميع مناطق العالم ، ولم تتوقف حتى الآن بسبب الحروب والإرهاب واتساع الفوارق الاجتماعية، إذ أصبحت الحركة أسهل بكثير نتيجة لتغيرات سياسية وثقافية، فضلا عن تطور وسائل النقل والتكنولوجيات الحديثة وتكنولوجيا الاتصالات . لعل ما ميز الهجرات الجديدة هو اتساع نطاقها العالمي وأهميتها في السياسات الداخلية والخارجية لدول الاستقبال، إذ نتج عن ذلك نشوء أشكال سياسية.
وعبر الكاتبان عن اعتقادهما بأن رواية الهجرة ليست ” صيغة سهلة” لافتراس الذات أو الاحتراب مع الاخر أو الاتصال به، إذ تعكس أغلب نماذج الرواية العربية التي تناولت الهجرة، بشكل واضح، توترات الذات في علاقتها مع الذات المختلفة، فضلا عن أن اللغة تبدو في رويات الهجرة شيئا شخصيا جدا. في روايات الهجرة، يبدو الغرب مكانا جليديا، تتراكم عليه طبقات من الثلج الأبيض مقابل بلاد الشمس والحنين. ومع ذلك، فإنه لا يمكن وضع كل ذلك المنجز الروائي حول الهجرة في سلة واحدة والتعامل معه من منظور أحادي ضيق.
استعادة تخيلية
وفي كل الأحوال فإن رواية الهجرة– كما جاء في تقديم المؤلف – أصبحت مهيمنة ثقافية عربية، وأنها ناقل هائل للتموقعات الجسدية والنفسية واللغوية التي يعانيها الروائي العربي المقيم في المنفى ( المهجر )، بعيدا عن الدلالة الجغرافية أو اللغوية للانتقال من حيز ثقافي إلى حيز آخر مختلف. إنها ، إن شئنا الدقة، كتابة مبنية على استعادة تخيلية فكرية للوطن المثالي أمام الشروط المجحفة للمركزية الغربية التي تسعى إلى محو الخصوصية وتغريب الإنسان.
وخلال الجلسة التي تولى إدارتها الكاتب المعطي قبال، تناول حسن نجمي وسعيد منتسب في تقديمهما للأنطلوجيا خلال هذا اللقاء بالتحليل أهداف والمحاور الرئيسة للكتاب، فأوضحا أنهما اختارا اثنين وأربعين نصا لاثني وأربعين كاتبا عربيا يمثلون 13 بلدا: 13 من المغرب؛ 5 من العراق؛ 3 من سوريا؛ 4 من لبنان؛ 2 من مصر؛ 2 من الجزائر؛ 6 من تونس؛ 1 من السعودية؛ 1 من فلسطين؛ 1 من ليبيا؛ 1 من الكويت؛ 2 من الجزائر؛ 1 من السودان.
نصوص عابرة
غير أن هذا الاختيار – يقول سعيد منتسب الحاصل على جائزة كتاب المغرب ( صنف السرد ) برسم سنة 2024 – أملته، أولا، ضرورة احترام مبدأ الملاءمة بين النص وموضوع الأنطولوجيا، أي الهجرة، وثانيا: فرضه البحث عن النصوص “العابرة” التي لا يهتدي إلى يقظتها المستمرة إلا القراء والدارسون الراسخون في رصد الإنتاج الروائي على امتداد خريطة العالم العربي، متوقفا عندما وصفه ب “تقاطعات الهوية والمنفى والتمثيل اللغوي“، انطلاقا من أن موضوعة الهجرة، تحضر بكل تنويعاتها، في الرواية العربية الحديثة، كأحدث تمظهرات الانكسار الوجودي، لا فقط بوصفها انتقالا من مكان إلى مكان، بل شرخا واغترابا يمزق الذات في علاقتها بالآخر، أي تلك العلاقة التي تبنى على توتر هائل يتيحه السعي إلى سد الثغرة بين الطرفين، على مستوى الرؤية والتقبل والفهم. ذلك أن الهوية، لحظتئذ، “تشكلها العيون التي تحدق بنا من الخارج”.
وأضاف أن أنطولوجيا، “خرائط الهجرة في الرواية العربية”، تسمح للقارئ والباحث، من خلال النصوص المدرجة فيها، بقراءة خريطة “الرواية الهجرية” وفهم عناصرها، وكيفية تمثلها للواقع العربي، في امتداده وتنوعه واتساعه؛ وهي اقتراح دال ومفتوح وغير ثابت، خاصة أن الهجرة تحولت، في الرواية العربية إلى مهيمنة سردية لا يمكن القفز عليها لأسباب متعددة. بيد أنه شدد على أن السؤال الجوهري الذي طرح على معدي الكتاب وهما أمام أمام كم هائل من النصوص، المعروفة والمجهولة، على حد سواء، هو، هل الهجرة في الرواية العربية تلاحق الحرية المفتقدة في الأوطان، أم تُنتج نفيًا مزدوجًا: من الوطن ومن الذات أيضا؟ هل الهجرة منفى أم هروب أم “فردوس مفقود” أم ارتماءة غير مفكر فيها من الشواهق؟.
الرواية كوثيقة
وفي هذا الصدد خلص منتسب إلى القول لا شك أن الهجرة تحولت في السرديات العربية، على مر السنين، من تيمة هامشية إلى موضوعة مهيمنة، خاصة منذ تسعينيات القرن العشرين إلى الآن. ولعل السبب الأوضح هو ما عرفه العالم العربي من نزاعات، وحروب أهلية، وأنظمة شمولية قمعية، وملاحقات سياسية، وأيضا انسداد آفاق الشغل والعيش الكريم، في ظل تسيد الفساد والاستزلام الممنهج للنخب وانحسار الحق في التعبير الحر.
وبما أن الرواية تعكس الواقع وتعيد تشكيله، فقد أصبح “المهاجر” و”اللاجئ” و”المنفي” من الشخصيات المحورية في الرواية العربية، بل في كل أشكال السرد العربي. ولهذا يتعامل بعض الدارسين، الذين يراهنون على ضرورة إدراج البنى النظيرة في الدراسات والبحوث، مع الرواية كوثيقة تعبر عن تجربة وجودية معقدة: فقدان، اقتلاع، بحث عن هوية، صراع مع اللغة والمكان والحنين، كما تعبر عن طبيعة السلط القائمة في الوطن العربي، يؤكد سعيد منتسب.
وإذا كانت الرواية بطبيعتها فنّا يسائل الهوية، بينما تعمل الهجرة بطبيعتها على زعزعة هذه الهوية في تنوعها، فإن الروائي – حسب المتدخل – يلوذ بهذه الموضوعة، لأنها تفتح بابًا عميقًا نحو قراءة متعددة الطبقات، إذ لا يمكن الاكتفاء بقراءة مباشرة لها، لأنها تنتمي إلى ما هو متحول ومتداخل بين تجربة الكاتب والسياقات التي يكتب ضمنها، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية.
أفقً سرديً
وتبعا لذلك – يرى سعيد منتسب – أن الهجرة أصبحت أفقًا سرديًا من حيث كونها فضاء للتجربة الحدية، حيث يُختبر الإنسان في أقصى هشاشته، كما أنها تحضر، في العديد من التجارب، باعتبارها وسيلة لإعادة النظر في مفاهيم مثل الوطن، اللغة، الهوية، الآخر، الحب، التاريخ.. إلخ. ومع ذلك، فإن هذا الأفق ليس “أفقًا قدريًا” أو “حتميًا”، بل اختيارًا جماليًا ووجوديًا عند بعض الكتّاب، ذلك أنها تمثل الحلم والخلاص والكرامة، إلى الحد الذي قد تصبح، في روايات بعض الروائيين المهاجرين، صورة مثالية مضادة للشرق المهزوم. بينما في روايات أخرى، يصبح الآخر هو العدو الناعم، الذي يمتص الذات ويعيد تشكيلها باستمرار، بل يضعها أمام هشاشتها واهتزازاتها، عبرا عن اعتقاده بأنه ما يثير الانتباه، هو الأفق الجمالي والفكري لروايات الهجرة التي تعمل على إعادة النظر في علاقة الذات بالآخر، وفي علاقتها بالهوية والمكان. كما يمكن طرح السؤال التالي:
وبعدما تساءل عن أي حد استطاعت الرواية العربية أن تُترجم التوترات المتعددة التي تثيرها تجربة الهجرة؟ وهل أسهمت هذه الرواية في إعادة صياغة العلاقة مع الآخر بالوضوح التام، وأيضا في تفكيك خطاب السلطة، سواء في الوطن أو في المهجر؟ وما هي المهيمنات الجمالية والفكرية التي تحكم هذا النوع من الروايات؟ قال منتسب سعيد إن هناك أربعة أنواع روائية تمثل الهجرة في الرواية العربية، هي الرواية السيكولوجية التي تنقل الاغتراب الداخلي وتشوّهاتِ الذات ومخاوفَها، و روايات المنفى السياسي التي تلجأ إلى السرد للتنفس ضد الاختناق القمعي، والرواية الأطروحة التي تجعل من المتخيل الروائي منصة للترافع والتفكير الحقوقي، فضلا عن الرواية النقدية للواقع التي تشتبك مع السلطة وتُفكك أعطاب الواقع والهويات.
تعبير عن الاغتراب
وسجل بأن ما يثير الانتباه في هذه الأنواع الأربعة هو خصائصها اللغوية والأسلوبية التي تتمظهر بوصفها أداة تعبيرية عن الاغتراب، حيث يلاحظ في العديد من روايات الهجرة، استخدام لغة تعكس شعورًا بالاغتراب الثقافي، من خلال إنتاج لغات متعددة (مثل الترجمة أو التنقل بين لغات عدة) كدلالة على تعدد الهويات الثقافية، كما أن هذه اللغة تتضمن، بمستويات مختلفة، تمثيلًا نفسيًا معقدًا لمشاعر الشخصيات، حيث يُستخدم هذا الأسلوب اللغوي لتمثيل التقلبات النفسية بين الوطن والمهجر.
فاستخدام اللغة المحكية في الأدب الهجري – حسب سعيد منتسب – ليس مجرد اختيار لغوي، بل هو استراتيجية تعكس العديد من الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية، منها تمثيل الهوية الثقافية واللغوية، إذ تساهم اللغة المحكية في إبراز روابط الشخصيات بالمجتمع الذي جاءت منه والهوية الهجينة، وإضفاء الواقعية والصدق على السرد زالسخرية والنقد الاجتماعي، علاوة على أن الروائي قد يلجأ إلى اللغة المحكية لتسليط الضوء على التفاوتات الطبقية أو العرقية في مجتمعات الاستقبال، مع التمييز اللغوي بين الأجيال الذي يمكن أن يظهر من خلال اختلاف الأسلوب اللغوي بين الشخصيات.
وكان مجلس الجالية المغربية بالخارج، قد أصدر عام 2011 ضمن منشوراته أنطلوجيا أولى من إعداد حسن نجمي وعبد الكريم الجويطي.