
دهشة النص وظلّ المترجم: قراءة في “الليالي البيضاء” لدوستويفسكي ومترجمها إدريس الملياني
لبنى العامـري
إنه لمن النادر أن يثير اسم مترجم لديّ هذا الشعور من الدهشة والفضول. لكن حين وقعت بين يدي رواية “الليالي البيضاء” (°) لدوستويفسكي (°°)، كانت أولى علامات الدهشة تكمن في اسم المترجم: إدريس الملياني (°°°). الاسم لم يكن غريبا تماما، إلا أنني لم أكن قد سمعت عنه كثيرا في الأوساط الأدبية العربية. وما كان يثير الفضول أكثر هو أن المترجم، الذي أتاح لي فهما أعمق لتفاصيل النص الروسي، هو مغربي.
في لحظة من الفضول المشوب بالتساؤل، بدأت أبحث عن هذا المترجم الذي بدا لي صامتا كظل مغمور في عالم الأدب العربي. لا يمكنني إنكار دهشتي حين اكتشفت أن الملياني ليس فقط مترجما، بل هو ناقد وشاعر ومبدع مغربي أيضا، يمتلك أسلوبا فنيا يجمع بين قوة النص الروسي ورقة الشعر العربي، ويفتح لنا أبوابا غير مرئية للتواصل بين الثقافتين.
المترجم الذي التزم بنقل النصوص الروسية، كان يبذل جهدا عظيما لتقديم الروح الروسية بلغتنا العربية مع الحفاظ على أمانة النص. ما لفت انتباهي في عمله هو تلك اللمسات الدقيقة التي جعلت الترجمة ليست مجرد إعادة كتابة للأفكار، بل خلق جديد يعيد تشكيل النصوص ويغنيها، بلغة عربية صافية ومليئة بالأنفاس الحية. عمله مع الليالي البيضاء هو مثال حي على تلك الدقة الفنية التي تتطلب فهما عميقا للأدب الروسي، إضافة إلى الإحساس بتركيب اللغة العربية وصياغتها بطريقة تلامس القلوب.
هذا الاكتشاف فاجأني أكثر لأننا في عالم الأدب العربي لا نولي اهتماما كبيرا لمترجمين مثل الملياني، رغم أنهم يمتلكون مهارات فريدة في ترجمة النصوص الأدبية العميقة. المترجمون هم غالبا من يصنعون الجسر بين الثقافات، لكنهم نادرا ما يلقون الضوء الذي يستحقونه. ونحن، كقراء، نخسر الكثير عندما لا نحتفي بهذه الأسماء التي تساهم في نقل الأثر الأدبي كما هو، لكن بروح مغايرة وعميقة.
قد نتساءل لماذا نعرف عن بعض الأدباء والشعراء أكثر من مترجميهم؟ لماذا لا يتم تسليط الضوء على هؤلاء الجنود المجهولين الذين يزرعون داخلنا عالما آخر، عالما من الأدب الذي يعبر الحدود الثقافية؟ إدريس الملياني هو مثال حي على هذه الفئة التي نحتاج لتسليط الضوء عليها أكثر.
من خلال تفاعلنا مع أعماله، نتعلم كيف يمكن للأدب أن يتجاوز حدود اللغة والعقبات الثقافية، ليصل إلى أعماق إنسانية مشتركة. لذا، لم يكن اكتشافي لإدريس الملياني مجرد اطلاع على مترجم فقط، بل هو استكشاف لروح أدبية مغربية تحمل عبقا روسيا، تصنع جسرا بين الأدبين يفتح أمامنا أبوابا جديدة من الفهم والتقدير.
الليالي البيضاء – عشق هادئ بين الواقع والحلم
“الليالي البيضاء” هي أكثر من مجرد رواية. هي قطعة فنية تنقلك إلى عالم من التناقضات العاطفية والفكرية التي تكشف عن تفاصيل الحياة البشرية من خلال عيون شخصيات بسيطة ولكنها عميقة. كتبت هذه الرواية على يد الروائي الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي، وتعتبر واحدة من أكثر أعماله شهرة، لأنها ليست فقط سردا لقصة حب، بل هي بحث فلسفي في معاني الحياة والموت، والحب والألم.
الرواية تسرد قصة شاب يعيش في مدينة روسية يعاني من الوحدة. في ليلة مظلمة، يلتقي بفتاة تُدعى ناستينكا، تعيش هي أيضا في عالم من الأحلام. يلتقيان في مشهد رومانسي غريب يثير في النفس تساؤلات عن معنى الحب، والانتظار، والآمال الضائعة. ومن هنا تبدأ علاقة مثيرة بينهما، تعتمد على الكلمات والمشاعر غير المعلنة. مع تقدم الرواية، تكتشف أن الشخصيات ليست مجرد شخصيات عابرة، بل هي تجسيد للقلق البشري عن الحياة والموت، والتجربة الإنسانية التي تتسم بالمرارة.
أكثر ما يميز الليالي البيضاء هو أسلوب الكتابة الفلسفي الذي لا يعتمد على التطور التقليدي للأحداث، بل ينغمس في عوالم الداخل، في تلك اللحظات الصغيرة التي يمر بها الإنسان في حياته والتي تتسلل إليه دون أن يشعر. لا تركز الرواية على دراما الأحداث، بل على التأملات العميقة في معنى الحب، وكيف يمكن لروح الإنسان أن تتجلى في أبسط اللقاءات.
لكن النهاية، كما هي عادة في كثير من أعمال دوستويفسكي، ليست سعيدة كما قد يتوقع الكثيرون. النهايات في رواياته ليست لتلبية تطلعات القارئ، بل لتسليط الضوء على الحقيقة القاسية التي قد يراها البعض مُحبطة. إن الليالي البيضاء تشبه الحلم أكثر من كونها حقيقة، تشبه لحظة عابرة في الحياة التي لا تجد فيها ما تبحث عنه، لكنك في النهاية تُدرك أن الحلم نفسه هو جزء من الحياة.
ما أضافته الترجمة التي قام بها إدريس الملياني لرواية “الليالي البيضاء” هو القدرة على نقل الروح الحقيقية للنص. الترجمة كانت مفعمة بالحس الإنساني، تتنقل بسلاسة بين لغة دوستويفسكي وبين أفق الفكر العربي. لم تكن مجرد نقل للألفاظ، بل كانت إعادة بناء للأحاسيس والمشاعر التي عبر عنها الكاتب الروسي، بلغة تليق بهوية النص. كان لهذا العمل الترجماتي أثر كبير في جعل النص أكثر حيوية وعمقًا، مما يعكس فهمًا عميقًا للمترجم لروح الرواية وتفاصيلها.
رواية “الليالي البيضاء” ليست قصة حب، بل قصيدة حزينة عن الأحلام التي تزهر فجأة وتموت بهدوء. أربعة ليالٍ من القرب، ثم عمرٌ كامل من الذكرى. دوستويفسكي كتب حكاية لا تُنسى، عن اللقاء، والانتظار، والانفصال الذي يحدث دون ضجيج. في النهاية، هي دعوة لتأمل ما يعنيه الحب والانتظار والأمل في حياة الإنسان. قد لا تكون نهاية الرواية هي النهاية التي نتوقعها، لكن الحياة نفسها ليست دائما كما نرغب في أن تكون، وهي في جوهرها مليئة بالأسئلة أكثر من الإجابات.
ــــــــــــــــــ