حين يغني الماضي: رحلة في ذاكرة الفنان المبدع جمال الكتامي …. نغمة الأصالة ووجع الوطن
222
شارك
عبدالعزيز الخبشي
حين يُذكر اسم جمال الكتامي، تُستحضر تلقائياً تلك النغمة الدافئة التي تسكن الأعماق، ويصير الصوت سبيلاً للبوح الصادق بما لا تستطيع الكلمات أن تحمله وحدها. هو ليس مجرد فنان غنائي أو عازف موهوب، بل هو حالة فنية نادرة تمشي على خطى الكبار الذين ربطوا الفن بالحياة، واللحن بالموقف، والنغمة بالوجع الإنساني العميق. منذ بداياته، لم يسع جمال الكتامي إلى أضواء الشهرة العابرة، ولا إلى بهرجة المسارح، بل جعل من صوته معبراً لنبض الناس، ومن عزفه لغة أخرى تقاوم الابتذال الفني والانحطاط الثقافي. امتشق آلة العود كما يُمتشق القلم، وأبدع ألحاناً تُعانق الشعر كما تعانق الأم طفلها في لحظة خوف.
المسيرة الفنية لهذا الفنان الملتزم تشهد على وفائه للموقف قبل اللحن، وللمعنى قبل الشهرة. لم يخضع جمال الكتامي لإكراهات السوق، ولم يتنازل عن قناعاته الجمالية والفكرية رغم ما في ذلك من ثمن باهظ على مستوى الانتشار والدعم المؤسسي، لكنه ظل صامداً، منشداً للكرامة والحرية والحب بمعناه النبيل، مجسداً مقولة أن الفن الأصيل لا يُقايض، بل يُقاوِم. في أغنياته، تحضر فلسطين كما يحضر الفقير، وتحضر الأم كما يحضر الوطن، ويحضر الحلم كما يحضر الجرح المفتوح. صوت الكتامي هو صوت المهمشين الذين لم يجدوا من يصغي لهم، وهو صدى الأحلام المؤجلة التي تتغنى بالعدل في زمن انقلبت فيه الموازين.
لقد استطاع هذا الفنان أن يخلق أسلوبه الخاص، مزيجاً من التواضع الإنساني والصلابة المبدئية، يجمع بين رقة الأداء وعمق المضمون، بين الانسياب الموسيقي والقوة التعبيرية. لا ينفصل جمال الكتامي عن محيطه الاجتماعي والثقافي، بل هو ابن لهذه التربة التي أنبتت الأصوات النقية التي لم تنحنِ لعواصف التفاهة. يحمل في نبراته بصمة الأرض، وفي ملامحه تلك البساطة الآسرة التي تجعل من الفن رسالة أكثر مما هو مجرد متعة سمعية. في زمن تتهاوى فيه القيم الفنية وتُفرغ فيه الأغنية من رسالتها، يظل جمال الكتامي واحداً من أولئك القلائل الذين يقفون كجدارٍ أخير أمام زحف الرداءة.
وإذا كان الفن رسالة، فإن رسالة الكتامي واضحة كوضوح لحنه، جلية كصدق عينيه، تقول إن الجمال الحقيقي لا يكون إلا منسجماً مع القيم، وإن الفن حين يُخلِص للناس يصبح فعلاً مقاوماً، لا حاجة له إلى وسائط تجميل أو مساحيق ترويج. هكذا ظل جمال الكتامي على الدرب، يغني وكأنه يصلي، يعزف وكأنه يُنقذ ذاكرتنا من النسيان، يمنحنا ما يعيدنا إلى ذواتنا في زمن صار فيه الإنسان غريباً عن نفسه. ومن خلال حضوره الهادئ، استطاع أن يحفر اسمه في وجدان من سمعوه لا باعتباره نجم شاشة، بل صوتاً أصيلاً من هذا التراب الذي لا يكذب.