النزول إلى قبو الحكاية الغرائبي ومبدأ تفكك الهوية

4

 محمد علوط

داخل القبو يزج بنا الكاتب في مناخات عالم غرائبي لا عقلاني، شخوصه متفككة الهويات، بعضها يتقمص بعضا في تناسخات مريبة، وبعضها يجتلبه الكاتب من مدونات نصوص تخييلية ويورطه في تشابكات سردية

القبو هو [المكان العائد دوما] في العمل القصصي «قبو إدغار ألان بو» لسعيد منتسب ، هذا العمل الذي يضم ثلاثة وعشرين مسردا قصصيا وثلاثة وعشرين قبوا/ أو أقبية ، في نسيج مصفوفة يتوالى فيها تخييل [قبوي]، يتقاسم فيه العيش المشترك (متخيل المضاعف) إلى جانب (متخيل المتاهة).
القبو [المكان الذي لا يكف يعود] يمنح لمجمل مسردات العمل القصصي شكل المرايا المتجاورة – لكنه ليس تكنيك المرايا المتجاورة لدى نجيب محفوظ في عمليه(المرايا) و(ميرامار): لأن المناخ الواقعي في السرد لدى نجيب محفوظ ينحجب في قبو سعيد منتسب لصالح تسيد تخييل سردي غرائبي يفتقد فيه الواقع لحمته، ويتشظى في اللاواقع المحكوم بمبدأ «الغرابة المقلقة»، حيث تتداعى حدود العالم الموضوعي، تخترقه لا عقلانية الحلم والاستيهام والفصام والبارانويا والسياقات التي تحيل على مدونات السرد الفانطاستيكي .
حافظ الكاتب على المبدأ النصي الذي وقفنا عنده بخصوص العمل القصصي «قبلة التنين» أي [لعبة المتاهة] وإعمال مروحيات السرد في تحليق متعدد الاتجاهات، مفككا الوحدة العضوية للقصة لصالح محافل كتابة يتبادل فيها الانعكاس كل من سرد المتاهة ومتاهة السرد وعدم ركون القصة إلى أي حبكة قارة أو [جاهزة].
موتيف (أو موضوعة) المكان العائد دوما، مكون يشتغل بوظيفة مزدوجة، أولا: لأنه يسمد السرد بألوان من التراكبات المخصبة للأبعاد الفيزيائية، سواء كتوازيات للتمرئي والتماهي أو كتناظرات للشبيه والمفارق أو كمضاعفات حلولية أو طباقية متغايرة. وثانيا: لكونه صناعة مجازية لأن [استعارة العودة إلى القبو] هي استعارة مخيالية كونية ذات عمق رمزي وأنتربولوجي مترحلة الدلالات في الوعي الأنطولوجي للكائن من كهف الإنسان البدائي إلى ميثيولوجيات حرث الأرض وحفر الآبار والمناجم .. وغير ذلك من [السرود القبوية] من كهف أفلاطون وتأسيسات نظرية المثل إلى غار حراء ونشأة الإسلام وما تاخمهما من محكي محوره الكهف والغار وغيرهما من المشاكلات الترادفية التي تصب في ذات الحقل الترميزي.
هي ذاتها الاستعارة المخيالية على مستوى أنطولوجية السرد المتمثلة في بعدها المجازي الذي يحيلنا على نشأة القصص الجديدة المبتكرة من رحم غيرياتها من القصص التي تكنزها ذاكرة السرد الكوني. فالكتابة السردية تنشأ من أوحام [رحم – قبو] ومن التلقيح الذاتي الذي لا يكف يجعل ميراث السلالة مترحلا في مجازات الهويات و الغيريات،من خلال النزول إلى الأعماق المنجمية لأكوان السرد، وإلى غوريات الطبقات المندفنة في أديم الأسمدة المخصبة للغة والمخيال وأسطرات الحكي ومثيولوجياته في محتملاتها الكمونية،وتشكل وتشعب الأنساب الجينيالوجية للمحكيات والقصص والسرود في تحققاتها المفتوحة على الأفق اللامتناهي.
بموجب هذه الإحالة الاستعارية ومقتضى الانزياح الإسنادي في العنوان (قبو إدغار ألان بو) ومشاكلاته في العمل: قبو موديغلياني – قبو دوستويفسكي –قبو عيون إلزا … وعلى اعتبار كون الكاتب سعيد منتسب يتحول إلى شخصية تخييلية في النص المعنون «حروق بلوتو» فإن المجاز الاستعاري يمنحنا رخصة تخييلية للحديث عن [قبو سعيد منتسب] لنكون في عمق الاقتضاء التخييلي لمدونة سردية تنهض على مجاز قبوية السرد والاشتغال من عمق فضاء لتوليد (التوليد بالمعنى السقراطي) دماء الحكاية من دماء غائرة «الجرح والتعديل» .
في أحد سياقات كتابه «الأنا هو آخر» يوصف فيليب لوجون مفهوم المؤلف بالصيغة الدالة «لا يتعين الكاتب إلا بعد صدور كتابه الثاني» ، وهو في تأويل مرجعياتنا ما يدرك ب «حين يصيرالمؤلف موضوع تناص مع ذاته كآخر» أي تناصا بالتجاوز، ذلك أن هبة المؤلف لا تمنح لمن يجعل كتابته [وقفا / من الأوقاف] على أول كلمة له، بل حين يدرك أن الكتابة تقع في ذلك الحد البرازخي، حيث داخل كلمته [تتكلم لغات وألسنة أخرى] وأن هناك كما يذكر فرويد في مقالة له بعنوان (الكاتب و الخيال)»6» قبو تحت اللسان يسمى اللاشعور، أو كما يسميه ج. ب. نويل في سياق آخر ب (لاوعي النص)»4». يكشف فرويد عن تجليات هذا القبو بمهارة في مرجعين وهما مقالته حول « الغرابة المقلقة « ودراسته لقصة « تاجر الرمل» لهوفمان حيث نكتشف أنه تحت قشرة الحكاية تندس وتتوارى أكثر من حكاية واحدة، وهو ما سنقف عليه من خلال مفهوم (الانحجاب الطرسي للحكاية) في قبو سعيد منتسب.
قبو سعيد منتسب هو أيضا قبو الغرابة المقلقة/ الصورة النقيض للوغوس العالم الواقعي الموضوعي. نحن بصدد الحكاية المشيدة من حركة نزول إلى القبو وصعود إلى الفوق–أرضي. في الفوق – أرضي حروب سادرة وواقع يشهد انهياراته التراجيدية و خرائطية كون إنساني يسوده العبث المطلق وداخل القبو يزج بنا الكاتب في مناخات عالم غرائبي لا عقلاني، شخوصه متفككة الهويات، بعضها يتقمص بعضا في تناسخات مريبة، وبعضها يجتلبه الكاتب من مدونات نصوص تخييلية ويورطه في تشابكات سردية يتداخل فيها المرجعي الثبوتي بالوهمي الزائف. فالمؤلف لا يكف يحول عمله القصصي إلى مشغل لتفكيك سرود لانهائية من مدونة الأدب وإعادة منحها « حياة ثانية «، وهو مشغل للمفارقات الكونية مصاغة في تسريد مؤسلب للباروديا الساخرة وتسخير الهجائي لخلخلة الثبوتية المرجعية لأنساب النصوص و الحكي و المؤلفين (Le satire).
في ميراثنا السردي أقوى النصوص التخييلية استحضارا لموضوعة [القبو] بتوسيع الفضاء الدلالي على مشاكلاته المجازية [الكهف، الغاز، الحفرة، الخندق، السجن، البئر المهجور، المقبرة، ومدافن الأمم السابقة، الردم والطلل…الخ] هما:
– سيرة سيف بن ذي يزن
– ألف ليلة وليلة
وكلاهما لـ [مؤلف مجهول] أي من مدونات خيال قصصي جمعي، ونص ألف ليلة وليلة وارد الذكر لدى سعيد منتسب في النص المعنون «ثقب أسود في حقيبة» من خلال محكيّ بأسلبة بارودية ومناخ غرائبي وبتناص مع رواية «شمس آل سكورتا « للكاتب الايطالي لوران غودة.
يورد سعيد الغانمي في كتابيه «مفاتيح خزائن السرد» و»خيال لا ينقطع» دارسا لسيرة سيف بن ذي يزن ولمتن ألف ليلة وليلة ارتباط سرود المتخيل القبوي/ الكهفي بتواتر تخييل غرائبي – عجائبي حيث ترتسم صورة الطباق بين عالم عقلاني وعالم لا عقلاني، بين عالم أرضي وعالم ما ورائي، بين عالم الإنس وعالم الجن والمردة والشياطين والملائكة.
يورد س. الغانمي تأويلات عديدة للسياقات المذكورة حيث الأحداث تستحضر متخيلا قبويا / كهفيا. لا أقول كل التأويليات وإنما جلها تقرن فضاء القبو بموضوعة [التحول] (La métamorphose) وأيضا بموضوعة المضاعف (Le double). وقد شكلت هاتان الموضوعتان محور اهتمام ت . تودورف في دراسته «مدخل إلى الأدب الفانتاستيكي» محللا مفهومي الغريب والعجيب، كما شكلت محور اهتمام مبحث أوتورانك حول»المضاعف» الذي هو أحد أبرز مراجع س . فرويد في كتابه «خمسة دروس حول التحليلنفسي التطبيقي» الذي درس فيه نصوصا من الأسطورة و السرد الروائي والسرد القصصي.
يذكرنا هذا النزول القبويّ إلى كهف الحكاية لدى سعيد منتسب بقصة «أوريليا» لنرفال، حيث الشخصية تنزل درج بناية ذاهبا إلى موعد في الساعة الحادية عشرة والنصف، يتحول الدرج إلى سلم لا نهاية لنزوله أشبه،بنزول عميق إلى ما تحت الأرض لتجسد الشخصية نفسها في النهاية في بداية اليوم الأول ما بعد القيامة. هكذا تتحول من شخصية أرضية إلى شخصية ما ورائية.
لا تختلف، ولا تشذ شخصيات [قبو سعيد منتسب] عن هذه الصورة الحاملة لميسم «التحول» الغرائبي. إنها شخصيات متحولة لشخوص تخييلية من محكي وسرود تخييلات روائية وقصصية سابقة . شخصيات تعود صاعدة من قبو ألف ليلة وليلة وقبو دوستويفسكي وقبو إدغار آلا بو وقبو لا نهائي من عناوين الأعمال الروائية الوارد ذكرها في العمل.
تعود لتنزل [قبو سعيد منتسب] إلا أنها مصابة بكل أعراض تفكك الكينونة وفقدان الهوية: من البارنويا إلى الانفصام، ومن فقدان الذاكرة إلى فقدان الانعكاس المرآوي كما في قصة «قصة الانعكاس المفقود» لهوفمان، ومن الارتياب إلى التباس المضاعف كما في قصة «وليمام ويلسون» لإدغار ألان بو. أو عائدة كـ [مسوخ] كما في قصة (الأنف) لغوغول،ذلك ما تعكسه تحول شخصية تيو دور في القبو إلى ذئب في قصة (قبو الذئب مقطوع الرأس) لسعيد منتسب.
سعيد منتسب بارع في تخييل صورة الشخصية المسكونة بشخصيات أخرى كما هو الحال في نصه المعنون (تلفاز جون مالكوفيتش) أو النص المعنون (بارانويا) أشبه ما يكون برواية «بيت الأرواح» لإيزابيل أليندي. وهو في هذا الصنيع لا يستعير موضوعة (التحول) و(المضاعف) من أي كاتب روائي أو قصصي آخر.
لقد ذهب بعض النقاد نحو اعتبار موضوعات المرآة والقناع، والآخر، والتحول والمضاعف إلى كونها اختصاصا بورخيسيا أو ملكية تخييلية له. ذلك أمر يفنده بجلاء القاص السوري محمد خضير في كتابه « الحكاية الجديدة « في القول بالوحدة الكاملة والتعدد اللانهائي لأشكال التعبير في السرد الثقافي الكوني.
موضوعة التحول مشاعة في كل الحكايات الأساطيرية والملاحم والروايات والمسرح الدرامي. م. باختين في كتابة [استطيقا ونظرية الرواية] هو من قام بتظهير موضوعة التحول في كل الآداب العالمية واعتبرها من الأنساق البانية لأنطولوجية السرد .وكذلك فعل يونغ ومارسيا إلياد على مستوى دراسة المتخيل من خلال تعبيرية [طقس العبور] المتحكمة في النسق الباني لكل السرود الكبرى والمتخيلات الأنتروبولوجية والبنيات اللاوعية للأساطير والمحكيات.
الأمر ذاته بالنسبة لموضوعة المضاعف وذلك لأن السرد لا يقوم إلا كمتظهر أنطولوجي مضاعف وهو ما أظهره هايدين وايت في كتابه (محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي) ، وقام بإرساء بناه التأويلية بول ريكور في كتابه (الذات عينها كآخر) وهو يبرز أن للسرد نسقا أنطولوجيا متلبسا بأثر المضاعفة و مجازات الذاتية المتجلبة لإغراء وجاذبية وسلطة [الآخر] و [الغيرية]، لكن ليس على أساس التطابق الذي تبنته الأطروحات الواقعية التي تطابق بين التخييل السردي والمرجع الواقعي.
شخصيات القبو شديد الشبه بسجناء أسطورة الكهف الواردة في الكتاب الثالث من (الجمهورية) لأفلاطون . إنها غير قادرة على تمثل ذواتها إلاّ في انعكاس الظلال الزائفة. ولن نحتاج هنا إلى مجمل الإيرادات التي يأتي بها ت. تودروف في الفصلين السابع والثامن من كتابة (مدخل إلى الأدب الفانطاستيكي وهو يتأول موضوعتي التحول والمضاعف بكونهما تمثيلا لتشخيص أزمة الأنا (ِCrise de je) ولما يسميه بتفكك الهوية.
كل شخصيات (قبو سعيد منتسب) تفتقد خاصية الإدراك الموضوعي، والتمثل (L’identification) كما عايناه في الفصل الثاني من كتابنا المعنون بـ (تكسير جدار لا تتمثل ذاتها إلا في فضاء من العماء (إخصاء النظر وإخصاء الانعكاس في المرايا) وفي فضاء من الالتباس الذي يحول الحوار بين الشخصيات إلى متخيل استعاري انفصامي. نقرأ من نص «حروق بلوتو» الحوار التالي :
– اسمح لي يا سيدي، هل أنت سعيد وأنت ميت ؟
– نعم .. محتمل جدا .. من يدري !
– أي طريق علي أن أتبع لأصير مثلك ؟
– أريد أن أكتب ..
– دعيني أسألك أولا؟ لماذا تراجعت عن رمي نفسك تحت القطار السريع ذلك اليوم ؟
استحالة مطلقة للتمثل لأن هناك جدارا لا مرئيا بين شخصيات القبو تعجز اللغة ذاتها عن اختراقه.
لا يكون السرد ممكنا إلا بقدرة الذات الساردة على تجاوز فعل الموت أي بتحويل الحادث إلى أثر كما يوضح ذلك بول ريكور في الجزء الأول من [السرد والزمان] (، مفككا القراءات المتعددة لمفهوم المحاكاة . وكذلك خورخي بورخيس في [كتاب الرمل] حين يستبطن [الهوية السردية] باعتبارها ميراث لمؤلفين مجهولين كما يستبطن فعل التخييل [ككتابة ثانية / Réécriture] باعتبار مآل الكتابة، أن نتحول نحن أنفسنا إلى كتاب مجهولين في مصائر وأقدار السرود الطرسية للعالم. ذلك ما ستستبينه الفصل اللاحق حول: [الهوية السردية : تشاكل الميثيولوجي والأنطولوجي].

error: