“سنوات قلم الرصاص”: عندما تلتقي الطفولة بالمدرسة والحلم في ذاكرة الكاتب والإعلامي جمال بُدومة

343
  • أحمد بيضي
أصدر الكاتب والإعلامي جمال بُدومة عملا جديدا يحمل عنوان “سنوات قلم الرصاص: نوستالجيا من ذاكرة المدرسة العمومية”، عن منشورات أݣورا، وتمتد فصوله الممتعة على أكثر من 130 صفحة حاملة لنوستالجيا مؤثرة تنبض بذكريات الطفولة والدراسة والحلم، وتتقاطع مع الحياة اليومية في مدينة ميدلت، التي يفتتح الكاتب سرده حولها بتساؤل فلسفي: “هل كانت مدينة أم فصلاً من رواية؟”، مستدعيا أجواء فيكتور هيغو وإيميل زولا، حيث كانت شخصيات البؤساء وجيرمينال ونوتردام دو باري حاضرة بين أهل المدينة، كأنهم جزء من الواقع.
بتفاصيل يصعب تلخيصها يأخذنا الكاتب بودومة معه في رحلة عبر الذاكرة، حيث يحكي عن طفولة محاصرة بالفقر، وعن محاولات اللعب والضحك رغم قسوة الحياة، لكنه يكشف أيضاً عن واقعٍ كان يجهله حينها: أن البؤس في مدينته لم يكن مصادفة، بل “عقوبة مخزنية”، يشير إلى السياق السياسي الذي جعل ميدلت تدفع ثمن مغامرة محمد الفقيه البصري المسلحة ضد الحسن الثاني عام 1973، وكيف أن البلدة ظلت مهمشة، يدفع سكانها الثمن بصمت، ويقتاتون على الخبز والشاي في بيوتٍ باردة.
وزاد بُدومة فحملنا لأجواء مدينته في فصل الشتاء، وهي تغرق في صقيع قاتل، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، وتدفنها الثلوج في بياض كئيب، وكأنها تتشح بثوب الموت الأخير، فيما تتصاعد أدخنة البيوت في محاولة يائسة لمواجهة البرد، ومن بين الذكريات العالقة في ذهن الكاتب، نصوص سلسلة “إقرأ” لكاتبها أحمد بوكماخ، حيث كان الأطفال يحلمون بخطافٍ يحمل إليهم “عيناً من اللؤلؤ”، لكن الخطاف لم يجلب سوى الرعود، ولم يكن هناك “أمير سعيد” ينقذ المساكين.
وسط هذا الواقع القاسي، برزت شخصيات شعبية في المدينة، مثل “سقراط” الذي كان يتردد على المحكمة يومياً ليقاطع القضاة والمحامين بآرائه، قبل أن يطرد ليكمل مداخلاته بين رواد المقاهي، كان يُعرف بـ “موحا والقانون”، تماماً مثل آخرين يحملون أسماء مستعارة تعكس حياتهم الصعبة، من بينهم “موحا والكولور” و”الميخديش” و”الفريكس”، وكم كان سوء الفهم جزءً من الحياة اليومية بين أطفال ميدلت حين اعتقدوا أن “الدستور” ليس سوى نوع من الأحذية، لأن الحذاء الأكثر انتشاراً في ذلك الوقت كان يُعرف باسم “سبّاط الدستور”.
يسترسل جمال بُدومة في كتابه “سنوات قلم الرصاص” بسرد ذكرياته حيث كان كل شيء تحت الصفر، حتى درجات الحرارة، ولم ينس الإشارة إلى مأساة قرية أنفگو، والتي حصد فيها الصقيع أرواح 26 طفلاً دفعة واحدة عام 2007، ولم تكن دولة المركز تكترث أبداً لمصير من يسكنون في ما كان يُعرف بـ”الجزء غير النافع من الخريطة”، لم تتذكرهم الرباط إلا مرة واحدة عام 1973، حين أرسلت إليهم الجنود والشرطة والدرك، ليس لإنقاذهم من البرد، بل لتنكيلهم ونقلهم إلى المعتقلات السرية، دون أن يكون لهم ذنب سوى أنهم كانوا هناك.
بدأ بُدومة كتابة الشعر في سن مبكرة، فقط ليحاول رسم صورة تحاكي منظر جبل العياشي الذي كان رمزاً لكل شيء في البلدة المنسية، وما تزال في ذاكرة بدومة أيضا يوم كان الأطفال يخترعون ألعابهم الخاصة، ألعاباً لا تكلف عائلاتهم الفقيرة شيئاً سوى ملابس ممزقة وسوائل دواء “ميركروم” الحمراء، وتحدث عن بداية الثمانينيات، حين اختفت كتب “إقرأ” وحلّت محلها “قراءتي” التي لم يكن أحد يعرف مؤلفها الحقيقي، لكن الأكيد أن بعض نصوصه بدت وكأنها تنتمي لعالم الخيال العلمي بالنسبة لسكان القرى والمدن الصغيرة.
وفي فصول أخرى من الكتاب، يتذكر بُدومة درس “سكان المغرب الأقدمون” الذي قرأه، مثل غيره من أبناء جيله، حيث لقنهم المدرسون أن “البرابرة هم السكان الأصليون للمغرب، وقد جاؤوا عبر الحبشة ومصر، وكانوا يسكنون المغاور ويرتدون جلود الحيوانات”، كأطفال، لم يكن لديهم سوى أن يحتقروا هؤلاء “الوحوش” الذين ظهروا في كتب اللغة العربية والاجتماعيات، دون أن يدركوا أنهم في الحقيقة أحفادهم، وأن الكثيرين ممن يعتقدون أنهم عربٌ خالصون لم يكونوا سوى أمازيغ استعربوا عبر الزمن.
الأطفال الذين يتحدثون الأمازيغية في بيوتهم، كانوا يتخلون عنها في الشارع والمدرسة، محاولين التحدث بالعربية، وإن كانت مكسّرة، فقط لتجنب نظرات الاحتقار أو السخرية من زملائهم، أو الأسوأ من ذلك، أن تحتقرهم “بنت المدير”، وبخلاف ما توهمته وزارة التربية الوطنية، لم تكن الفرنسية هي “اللغة الأجنبية الأولى” بالنسبة لكثير من التلاميذ في ميدلت، بل كانت العربية نفسها، لم تأخذ الدولة هذا الواقع على محمل الجد، فكان الأطفال يعودون بعد العطلة الصيفية ليكتشفوا أن نصف القسم قد اختفى، غادروا المدرسة ولم يعودوا.
يواصل جمال بُدومة في كتابه وصف قسوة الشتاء في ميدلت، حيث لم يكن البرد مجرد إحساس عابر، بل تجربة معيشية يومية، كانت أسنانهم تصطك من شدة الصقيع، والثلج يتساقط بغزارة كل عام، لكن الدولة لم تكن تكترث بسكان هذه المدينة الصغيرة، كما لم تكن معنية بتوفير تدفئة أو بنية تحتية تقيهم قسوة المناخ. وسط هذا البرد القارس، كانت أجسادهم النحيلة ترتعد، بينما يرددون خلف المعلم الذي يتدثر بجلبابين وسلهام ثقيل:كمال! كمال! هذا علم بلادي. علم بلادي أحمر، علم بلادي جميل.”
يعود بُدومة إلى ذكريات المدرسة، حيث كان الأربعاء هو أسوأ أيام الأسبوع، لأنه كان يبدأ بساعتين من الفيزياء، تليهما ساعتان من العلوم الطبيعية، مما يعني أنهم كانوا يقضون اليوم كله وسط روائح الكلور والكحول وأزرق البروموتيمول، وكأنهم داخل مختبر طبي أو مستشفى وليس داخل فصل دراسي، ويشبّه الكاتب التعليم العمومي ببطولة الهواة، حيث يواجه التلاميذ صعوبات وتحديات قاسية، بينما التعليم في البعثات الأجنبية والمدارس الخاصة يشبه القسم الأول من الدوري الاحترافي، حيث يتلقى الطلاب تعليماً يفتح أمامهم كل الأبواب.
في وسط هذا كله، كانت البكالوريا حلماً بعيد المنال، هدفاً يبدو شبه مستحيل لكنه كان الأمل الوحيد، كانوا يتمنون لو يغلقون أعينهم ويفتحونها ليجدوا أنفسهم في الجامعة، وحين تحققت المعجزة، ندموا، لأن كل شيء مرّ بسرعة البرق، ولم يكن العالم كما تصوروه، وفي سنوات البكالوريا، تفتحت أعينهم على قضايا أكبر من أعمارهم، وبدأوا يخطون خطواتهم الأولى في عالم الكبار. دخّنوا سجائرهم الأولى، وشاركوا في نقاشات احتجاجية حول حرب الخليج الثانية، بل وبدأ بعضهم في الانتماء إلى تيارات يسارية أو إسلامية، متطرفة أحياناً.
بين الفصل والساحة، كان الوعي يتشكل شيئاً فشيئاً، لكن بطابع ساذج ومتحمس، كان التظاهر بالوعي الثوري والاطلاع على الكتب الحمراء والصفراء سمة المرحلة، حيث كان الطلاب يتنافسون في إظهار ثقافتهم السياسية والفكرية، تلاميذ شعبة الآداب كانوا يشعرون بامتياز خاص، لأنهم كانوا يدرسون الفلسفة قبل طلاب العلوم بسنة كاملة، مما جعلهم يمشون بخيلاء أمام زملائهم، وكأنهم ينتمون إلى طبقة فكرية أعلى، لم يكن ذلك سوى وهم، لكنه كان جزءً من التشكل الثقافي لجيل كامل، عاش بين أمل التغيير وواقع التهميش.
يستمر جمال بُدومة في “سنوات قلم الرصاص” في استعادة ملامح طفولته وأحلام جيله، جيل “مكسيكو 86″، حيث لم تكن كرة القدم مجرد لعبة، بل كانت حدثاً يؤرخ للزمن ويحدد ملامح الذاكرة الجماعية. فرحهم عبد الرزاق خيري حين سجل هدفين في مرمى البرتغال، وحطم أحلامهم لوثر ماتيوس عندما أخرج المغرب من الدور الثاني، لكن دييغو مارادونا انتقم لهم لاحقاً بأهدافه الساحرة. حتى اليوم، ما زال بعضهم يعيش في وهم أن المغرب انتصر على ألمانيا في ذلك المساء العصيب، وكأن التمني يمكن أن يغير مجرى التاريخ.
بدومة تذكر ما كان يسكنه وأقرانه في الماضي من هاجس واحد: هو أن يكبروا بسرعة، لم يكن الأمر مجرد فضول، بل كان رغبة ملحة في تجاوز الطفولة والدخول إلى عالم الرجولة بكل تفاصيله، كانوا يحلمون أن يغمضوا أعينهم، ثم يفتحوها ليجدوا أنفسهم وقد نبت لهم “موشطاش” وزغبات على الصدر، ليتباهوا بها أمام الأقران ويدهشوا الفتيات في الحي والمدرسة، كان النمو بالنسبة لهم رمزاً للقوة، للحرية، للقدرة على مواجهة العالم كما يفعل الكبار، لكنهم، كما يعترف الكاتب، ندموا لاحقاً على استعجالهم ذاك، وتلك قصة أخرى.
يتضمن الكتاب عناوين: الحياة في القرن التاسع عشر، رجال الثلج، الجبل الأزرق، حمار وبخير، الأضواء الثلاثة، حذاء الدستور، سكان المغرب الأقدمون، جميل وحبيبته البعكاكة بثينة، العصا لمن عصى، العلامة، التفسير الواضح، مدرستي الحلوة، سباق المسافات الطويلة، الإنسان المتمرّد، مادة رمادية في زمن أسود، الأستاذ «شَنَبُو»، النصاب الساحر، جيل السداري، الخطة الجهنمية، اُخْرُج يا وقح، عيد العرش المجيد، فتى الأدغال، الهزيمة، مكسيكو 86، قرية في السحب، مثل صيف لن يتكرر، ضربة مقص، أيام مرقعة، الجيل المنحوس، أحلام لن تتحقق، مدرس العربية.
جمال بدومة، صاحب كتاب “سنوات قلم الرصاص”، شاعر وكاتب وإعلامي مغربي، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في السياسة الثقافية الدولية وتدبير الفنون (باريس)، خريج المعهد العالي للمسرح (الرباط)، أسس، رفقة شعراء وفنانين مغاربة، سنة 1998، “جماعة الأكروبول الشعرية”، من أعماله في الشعر: الديناصورات تشتم ستيفن سبيلبيرغ، نظارات بيكيت، ملاك يتعلم الطيران، أما في النثر فمن أعماله: كيف تصبح فرنسيا في خمسة أيام ومن دون معلم، باسم جيل ضائع، لا تؤجل غضب اليوم للغد..
error: