
نصوص مسرحية بملامح تجريبية واضحة المعالم: قراءة في “سفر على أجنحة من خيال” لكاتبها محمد العمراني
(أربع مسرحيات تجريبية للفتيان(12-18سنة)
-
حميد ركاطة (°)
غالبا ما نرجع أسباب قلة ذيوع النصوص المسرحية ومحدودية انتشارها وقراءتها، إلى هيمنة أجناس سردية بعينها، كالشعر والقصة القصيرة، والرواية.. بما تشكله من جاذبية بالنسبة للقراء، والمهتمين. وكذلك بما يخصص لها من جوائز وملتقيات وندوات كثيرة. ويمكن إيعاز دواعي وأسباب هذا الانحصار إلى كون المسرح بصفة عامة ارتبط بالنخب المثقفة، إلى جانب تفضيل البعض مشاهدة العروض المسرحية، بما تتضمنه من جاذبية، ومتعة، وبما توفره من تشويق عبر توظيف لغات درامية متعددة، تلبس للعرض المسرحي حتى يستوي نضجه، على قراءة نصوص تكون في الغالب تظل مستعصية على القارئ العادي، وبما يكشف عنه تشكيلها البصري من توجيهات، وإرشادات، داخل المتن، وتنبيهات، ومشاهد تتطلب بذل مجهود مضاعف، وتفرض عليه الانخراط الطوعي؛ لاستلهام الاطار التخيلي الخاص بالنص وبخصوصية فصوله، أو لوحاته، ومشاهده، وخلفياته المؤطرة.
لكن مع ظهور جيل جديد من الكتاب الشباب، سنلاحظ مدى التحول الذي طال هذه الكتابة الدرامية التي سرت في جسدها روح جديدة، بانفتاحها على قضايا الواقع، واستلهام التراث، والموروث الثقافي ببصمته المميزة الدالة على الهوية والخصوصية المحلية، التي تحمل في الغالب رسائل قوية تمتح من التراث الإنساني في شموليته.
نصوص مفعمة بروح الابتكار والتجديد، ومكتنزة بالعديد من الأفكار وتوظيف نظريات ومفاهيم جديدة، تنقل النص المسرحي من إطاره التقليدي، إلى مراقٍ عالية موسومة بالإدهاش والمغامرة والتثاقف، وابتكرت لنفسها أساليب جديدة للتناول والمقاربة. وبالعودة إلى استلهام التراث، يعتبر الدكتور محمد أبو العلا أن “سؤال العودة إلى التراث وضمنه المحكي، هو بمثابة عودة مفارقة، تثبت أزمة المسرح، وضيق أفقه الحداثي حيث وإن بدت منطلقات البحث في هذا الاتجاه تصحيحا لمسارات التأصيل، إلا أنها تؤشر في نفس الوقت، على تصدع النموذج المسرحي الغربي الوافد، واستنفاذا لإمكانات تثويره حداثيا من الداخل، الشيء الذي جعل البحث المسرحي وفق هذه الرؤية يروم تكييف التراث وفق تطلعاته، بأن يستعير منه ما لم يتمكن من إنجازه”
من هذا المنطلق يطل علينا الباحث والأديب الأستاذ محمد العمراني، بأربع مسرحيات “سفر ” تشكل في الواقع سفرا عبر الزمن نحو عوالم مثيرة ومشوقة، اعتمد في تأليفها على حبك النصوص المسرحية اعتمادا على مخزون قرائي ثري، تم فيه الارتكاز على مرجعيات ثقافية ضمن قوالب فنية مختلفة، من قبيل: توظيف الحكاية، في مسرحية” أوراق من رماد العنقاء” وتوظيف الأشكال ما قبل مسرحية” كفن الحلقة الدائرية، في مسرحية” رحلة شمعة” وتوظيف راوٍ للحكايات(كشهرزاد) في مسرحية أوراق من رماد العنقاء، و(تريسياس) في مسرحية سيمفونية العميان، و(حكيم ) في مسرحية ” شموسة في مملكة الكوانتيك، وشخصية (الحكاء) في مسرحية رحلة شمعة.
واتسم كل نص من هذه النصوص المسرحية، بميسمه الخاص، وبمتحه من شكل من الأشكال الفرجوية، ف” رحلة شمعة بدا احتفاليا، – وإن كانت جل النصوص يطغى عليها الجانب الاحتفالي، بارتكازها على تضمين الطابع الغنائي، وتكسير الجدار الرابع- ومثلت الأشكال الفرجوية التي شهدها المغاربة، خلال فترات زمنية متباينة، (البساط، الحلقة، سيدي الكتفي، سلطان الطلبة..)، أولى البوادر لملامسة الظاهرة الفرجوية. وإذا كانت هذه المظاهر الفرجوية سابقة على التأسيس المسرحي بمفهومه الحديث، فإن انغراسها في التربة المغربية بمراكمة تجارب ثرية، وبتجريب صيغ وأشكال فنية كان لها أكبر الأثر على استواء أنواع مسرحية، كما ساهمت في تطوير الكتابة الدرامية، ووسمها بالخصوصية المحلية، بعد أن استغرقت ردحا من الزمن في تعقب النموذج المشرقي أو الغربي”.
في حين تفردت مسرحية” شموسة في مملكة الكوانتيك” بميسم السفر عبر الزمن، نحو عالم عجائبي، داخل أبعاد جديدة، عمد من خلالها الكاتب في بناء حبكة نصها إلى الاستعانة بمرتكزات بعض النظريات الفزيائية كالكوانتية، ونظرية الأوتار، والتحول الكاوسي، وهو ما نفح النص بروح كتابة تجريبية محضة، تركت بصمتها الواضحة وعمدت بذلك إلى المزج بين الواقع والخيال، وهي تحبك بتؤدة بناء زمنها المستقبلي، وكذلك بانفتاحها على المتن التراثي عبر توظيف حكاية “الكتاب المسموم” وهي من حكايات ألف ليلة وليلة، وحسب باتريس بافيس” .. فالمسرح التجريبي يستدعي مسرحا تكون فيه التقنية المعمارية والسينوغرافية، والسمعية، جديدة. والتجريب يجب أن يركز على العلاقة بين الممثل والجمهور، وتصور الإخراج المسرحي أو إعادة قراءة النصوص، والنظرة والتلقي المجدد للحدث المسرحي. ثم إن التجريب يفترض أن الفن يقبل القيام بمحاولات في اتجاه البحث عن غير الموجود أو منعدم الوجود، أو عن حقيقة مختفية.
في حين تميزت مسرحية “سيمفونية العميان” بطرح مفهوم العمى من منظور جديد، كشف عن روح الانصات الكامنة في أعماق الذات. فالعمى يتحول إلى نعمة تضمن لصاحبها السلم الروحي والقدرة على الإنصات، وهي حقيقة لا تراها العيون. مسرحية تكشف حالات من الارتقاء بالعمى من ظلمة الإبصار إلى نور البصيرة. ولعل النزوح نحو إبراز جمال العتمات، هو نوع من التجريب اللافت” يسعى إلى ممارسة ثورة فكرية تبحث عن فكر وعن فلسفة للفكر المسرحي لتثوير الشكل المسرحي القائم وإقامة صراعية متزامنة من النقيض الغربي وإحداث قطيعة معرفية مع نمطين مجتمعيين متغايرين كل التغاير، الأول يقدم نفسه أصلا ومصدرا للمعرفة والثاني يتمظهر بشكل هذه المعرفة ليصبح صدى لها يقتبس من هذا الأصل وهذا المصدر لتكوين خطاب التقليد الذي يشد إلى الخلف”
في حين كشفت مسرحية ” أوراق من رماد العنقاء” عن تميز شخصياتها وقدرتهم على تغيير مسار البشرية لاستلهام رسائل عميقة وقوية لعب فيها “الكتاب الورقي” دورا أساسيا في بناء عالم المعرفة والثقافة الإنسانين عبر القراءة، فرغم الهجمات المتوحشة التي تعرضت لها الكتب(المعرفة الانسانية) عبر التاريخ ورغم المنافسة الشرسة التي أفرزتها الطفرة التكنولوجية، سيظل الكتاب مرجعا لا محيد عنه لبناء العقول وتنويرها.
ولامحالة أن قارئ هذه النصوص، سيلاحظ ، أن الكاتب قد استدعى فيها الموروث الثقافي والحكايات الشعبية، وتضمين خصائص المسرح الاحتفالي، الذي وإن كان ينفتح “على مستوى المتن الحكائي على التراث والأسطورة والواقع. فإنه يعمل على تكسير الكتابة الخطية بالارتكاز على تقنية “المسرح داخل المسرح”، ويعتقد الدكتور حسن المنيعي أن توظيف هذه التقنية له دلالته الفنية والمعرفية التي ترمي بالأساس “إلى تحقيق قطيعة مع المسرح الغربي التقليدي، عن طريق ابتداع نص حركي تتعدد فيه المحكيات والترسيمات الركحية التي تساعد الكاتب على الانفلات من سيطرة النظام الزمني المنطقي” .
كما تعمد بشكل مقصود، ربط الركح بالقاعة عبر تكسير الجدار الرابع، وتوجيه خطاب مباشر للجمهور، أو بإقحامه عنوة لاسمه بشكل صريح” محمد العمراني” خلال أحد حوارات المسرحية..” وقد سبق لموليير أن تساءل في “مرتجلة فرساي” فيما كان هذا الجدار الرابع يخفي حشدا من الناس يراقبنا. وقد حث ديدرو الممثلين على ضرورة الأداء مع افتراض وجود هذا الجدار، كما أن الواقعية والطبيعية تصران على ضرورة فصل الخشبة عن القاعة، إلا أن المسرح المعاصر قام بتكسير الإيهام، وبالنتيجة تكسير الجدار الرابع. وهكذا يبدو أن الجدار الوهمي، كان لصيقا بالإيهام المسرحي”.
كما تشترك هذه النصوص، في كونها كتبت بلغة سلسة، ولعبت على سلم القيم بالانتصار للفضيلة وإعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان المفتقدة، والتي لا تزال قابعة بأعماقنا. كما اعتمد في تقسيم أجزائها على لوحات(من لوحتين إلى ثلاثة) تفاوتت من حيث الطول والقصر، لكنها حافظت على قصر أنفاسها وعمق مضامينها التي جاءت مركزة بشكل كبير. و” شكّل التجديد على مستوى الكتابة النصية مظهرا إيجابيا يجسد دلالة الهواية كفعل تجديد ووعي جمالي قادر على تجاوز سلطة النموذج الكلاسيكي وأحاديته.
فقد انفلت النص عند الهواة من طابعه التقليدي القائم على كتابة درامية تراعي السيرورة الكرونولوجية للحدث(..) ليتبين وفق نسق يعتمد التعدد والتداخل على مستوى المتواليات السردية والحكائية، ونزع هذا النص إلى محاورة التراث واستحضاره وفق تصور جمالي يمتلك معرفة عميقة بقوانين الكتابة وضوابطها،(..) وتوظيف جماليات تراثية في الكتابة النصية على مستوى تقسيم النص الدرامي أو على مستوى صياغة الحوار وبنينته، وقد جسد مفهوم التناص حافزا للحفر في النصوص العربية التراثية وإدماجها في سياق كتابة درامية تقوم على التركيب وترقى بالعملية التناصية من مفهومها التحقيقي الناهض على الاستنساخ والاستلهام بمفهومه الحرفي لتصبح هذه العملية قائمة على وظيفة النفي بمفهومه الكريستيفي.
ذلك أن إدماج النصوص التاريخية والاجتماعية، والأدبية، والتراثية في سياق النص الدرامي الهاوي يتم بغاية منح دلالة جديدة لهذه النصوص. “التي يقترح علينا من خلالها الأديب والباحث الأستاذ محمد العمراني بدائل جديدة، ومعايير خاصة للتواصل، في زمن العزلة والموت، والدمار، والوحشية، والحرب.. لتكشف عن قدرتها على المساهمة في وضع لبنة جديدة في مسار شاق وطويل، وهذا المعطى شكل بدروه مرتكزا متينا في بناء حبكاتها، وإدارة صراع مثير جمع بين التشويق والثتقيف، والامتاع. كما أطرت خلفياته، معرفة رصينة نهلت من رحيق الإبداع الأدبي الإنساني، في بعده الكوني. وهو ما سيشجع القارئ بدون شك على اقتحام عوالمها، والاقتداء بمسار شخصياتها، وتبني مواقفهم النبيلة، انتصارا للخير، وتحقيقا للعدالة، والسعادة والرفاهية للإنسانية. ما سيجعل منها نصوصا ناضجة، ستشكل إضافة نوعية للخزانة المسرحية المغربية والعربية.
—————-
-
المراجع
-
محمد العمراني، سفر على أجنحة من خيال، أربع مسرحيان تجريبية للفتيان(من 12-18سنة)، مطبعة بلال الطبعة الأولى 2024
-
محمد أبو العلا: المسرح والسرد نحو شعريات جديدة، نقد، فالية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2018
-
عطاء الله الأزمي: البعد التراثي في الكتابة الدرامية، مشورات وزارة الثقافة الطبعة الأولى 2016
-
عبد الرحمان بن زيدان: التجريب في النقد والدراما، منشورات الزمن الطبعة الاولى 2001
-
باتريس بافيس: معجم المصطلحات المسرحية ، إعداد أحمد بلخيري، مطبعة سيندي مكناس 1997
-
محمد محبوب: المسرح المغربي، أسئلة ورهانات، مطبعة لورانجي الطبعة الاولى 2011
(°) قاص، روائي وناقد