الثورة الكوانتية الأولى

443
  • كمال الكوطي (°)
ارتبط اسم عالم الفيزيائي الفرنسي الان أسبي بتجربة شهيرة قادته هو ومجموعته إلى إثبات لامتسويات الفيزيائي الارلندي جون بيل، ومن ثم حسم السجال الذي دار ما بين اينشتاين وبور حول طبيعة النظرية الكوانتية وما إذا كانت هذه النظرية مكتملة البنيان أم ناقصة. لقد تمكن من خلال تجربته هذه من اكتشاف ظاهرة التشابك الكوانتي intrication quantique، وهو ما استحق عليه، صحبة فيزيائيين آخرين، جائزة نوبل للفيزياء سنة 2022. في هذا النص المقتطف من كتيب تحت عنوان “اينشتاين والثورات الكوانتية” يقدم ألان أسبي نوعا من التأريخ المختصر لما سماه بالثورتين الكوانتيتين، أقدم هنا للقارئ الثورة الأولى التي بدأت مع صياغة ماكس بلانك لنظريته حول الجسم الأسود، وبالتالي تكميم الطاق، لتستمر إلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين.
كمال الكوطي
باحث مختص في فلسفة العلوم
من المعتاد القول بأن القرن العشرين قد عرف ثورتين فيزيائيتين كبيرتين وهما: النسبية والفيزياء الكوانتية. لقد أعادتا النظر جذريا في الصورة التي كانت لدينا حول العالم وحول المفاهيم التي اعتقدنا في متانة الأسس التي شيدت عليها. بيد أن الفيزياء الكوانتية قلبت رأسا على عقب حياتنا بشكل نستطيع معه الحديث عن “ثورة كوانتية (1)”، تماما كما كنا نتحدث عن “ثورة صناعية” في القرن التاسع عشر، وذلك على إثر اختراع الآلة البخارية.
ويعود سبب ذلك إلى أن الفيزياء الكوانتية قد غيرت جذريا ليس فقط المفاهيم، بل أيضا المجتمع الذي نعيش فيه. فبدون فهم عميق للعالم الكوانتي ما كنا لنخترع الحواسيب، وأشعة الليزر التي تتيح الإرسال السريع للمعلومة عبر الألياف البصرية، وبالتالي ما كان لمجتمع المعلومة والتواصل كما نعرفه أن يوجد. فضلا عن ذلك، ما كان لصانع، في كاليفورنيا أو في أي مكان آخر، أن يخترع الليزر والدائرات المدمجة circuits intégrés التي تشكل أساس الحواسيب.
لكن حين نفحص بشكل دقيق تاريخ الفيزياء الكوانتية خلال القرن العشرين، نلاحظ أن هناك ثورتين كوانتيتين وليس ثورة واحدة. أما الأولى فبدأت في مستهل القرن الماضي مع كل من ماكس بلانك وألبرت اينشتاين. يتعلق الأمر بالثورة التي شيدت على الثنائية الشهيرة، ثنائية الموجة- الجسيم، والتي أفضت إلى إحداث انقلاب في الفيزياء برمتها ومثلت منطلق تطبيقات عديدة.
قد كان من الممكن الاعتقاد خلال سنوات الستينيات أن الموضوع قد بدأ يسير نحو نهايته، لكن سرعان ما أثار الانتباه مفهوم ظل إلى حين دون أهمية تذكر، مع أن اكتشافه قد تم انطلاقا من سنة 1930 من طرف اينشتاين، ومن طرف ارفين شرودينجر بعد ذلك، يتعلق الأمر بمفهوم مختلف اختلافا جذريا عن ثنائية موجة – جسيم وهو مفهوم التشابك. أتاح التقدم الذي حدث على مستوى الاختبارات، انطلاقا من سنوات السبعينات، القيام بتجارب أكثر دقة على موضوعات كوانتية فردية، وهو ما أدى إلى ميلاد ثورة كوانتية ثانية، ثورة مازالت تتطور أمام أعيننا. لذا، سوف نركز اهتمامنا في الصفحات التالية على هاتين الثورتين الكوانتيتين.
الثورة الكوانتية الأولى
عرفت الثورة الكوانتية الأولى بدايتها في القرن العشرين حين أوضح “بلانك” Planck أن فهم خصائص الإشعاع الصادر عن جسم خاضع للحرارة، والمسمى “بإشعاع الجسم الأسود”، يقتضي افتراض أن تبادلات الطاقة ما بين المادة والإشعاع لا تتم بكميات لامتناهية، بل بحزمات ذات حجم متناه. هذا ما نطلق عليه تكميم quantification تبادلات الطاقة، أي: أنه لا يمكننا نقل أقل من كمية معينة.
في سنة 1905، أقدم “اينشتاين” على خطوة ثورية أخرى حين اكتشف بأن ليس وحدها تبادلات الطاقة ما بين الإشعاع والمادة ما يتم بكميات أولية، والتي تسمى ب”الكوانتا” quanta، بل أن الإشعاع نفسه يتشكل من حبيبات الطاقة والتي أطلق عليها لاحقا اسم “الفوتونات” photons.
إنها خطوة مفهومية أكبر بكثير من تلك التي خطاها بلانك، بحيث تمكن من خلالها اينشتاين من أن يستنتج مباشرة (بخصوص ما ننعته باسم التأثير الكهرو-ضوئيphoto-électrique ، الذي يتيح للإشعاع نزع اليكترونات من المادة) قوانين مدهشة وصادمة بالنسبة للفيزيائيين الكلاسيكيين لدرجة أن لا أحد أخذها على محمل الجد في تلك الفترة. عشر سنوات بعد ذلك قام المجرب الامريكي الكبير روبرت مليكون Robert Millikan باختبارات غايتها، كما اعترف هو بذلك، إثبات خطأ توقعات اينشتاين. لكنه خلص بعد تجارب مذهلة وطويلة ومعقدة إلى أن اينشتاين كان فعلا محقا.
لقد فهمت لجنة تحكيم نوبل الطابع الثوري لفرضية اينشتاين وهو ما قادها إلى منحه تلك الجائزة سنة 1921 لاكتشافه القوانين المفسرة لظاهرة التأثير الكهرو-ضوئي، وليس لنظريته في النسبية كما دأب الناس على الاعتقاد دوما.
يرى اينشتاين بأن الاشعاع مكون من حبيبات أولية من الطاقة، وهي الجزيئات المسماة بالفوتونات. لكن هذا لا يعني مع ذلك تجاهل المكتساب الماضية خصوصا ما تعلق منها بمكتسبات القرن التاسع عشر. هكذا سبق وأوضح فيزيائيان رائعان وهما توماس يونغ   Thomas Young البريطاني وأوغستان فرنيل Augustin Fresnel الفرنسي بشكل لا يقبل النقاش بأن العديد من خصائص الضوء لا يمكن تفسيرها إلا إذا اعتبرنا الضوء موجة. ففي الوقت الذي يزعم فيه اينشتاين بأن الضوء مكون من جزيئات نجد أنفسنا أمام ظواهر، من قبيل التداخل interférence والحيود diffraction،  والتي لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض أن للضوء طبيعة موجية.
وعليه، كيف يمكن التوفيق ما بين النظرتين، الجسيمية والموجية؟ إننا هنا أمام الثنائية الشهيرة: ثنائية الموجة-الجزيء  onde-particule  التي اقترحها “اينشتاين” بخصوص طبيعة الضوء سنة 1909، والتي عمل بعد ذلك لوي دو برويل Louis de Broglie على تطبيقها على الجزيئات المادية في العشرينيات من القرن الماضي.
تم التعبير عن الثنائية الخاصة بالجزيئات في معادلة اتخذت شكل صورنتين formalismes  رياضيتين بشكل واجهتنا معه في البداية صعوبة في ايجاد تقابل بينهما: من جهة صورنة “ارفين شرودينجر”Erwin Schrödinger الذي صاغ معادلة الموجة المتحكمة في دالة الموجة الشهيرة والتي تصف تطور الجزيئات؛ ومن جهة ثانية صورنة “فيرنر هايزنبرغ” Werner Heisenberg الذي كان وراء صياغة ميكانيكا المصفوفاتmécanique des matrices. سنوات بعد ذلك تنبه كل من “شرودينجر” و”بول ديراك” Paul Dirac  إلى وجود تطابق ما بين الصورنتين (صورنة “شرودينجر” و” هايزنبرغ”). وعند بداية الثلاثينات من القرن الماضي تمكن “ديراك” من صياغة صورنة رياضية موحدة قادرة على تفسير الخصائص الموجية والجزيئية للضوء في الآن نفسه، فضلا عن خصائص الجزيئات وخصائص موجات الجزيئات المادية، مثل الاليكترونات الموجودة داخل المادة.
الثنائية موجة- جزيء
مع أن الصورنة الرياضية التي تتيح وصف الثنائية موجة-جزيء منسجمة تمام الانسجام، إلا أن تأويلها يطرح تساؤلات عديدة، من هذا المنطلق لا يمكننا تفادي الخوض في الجدل الحاد الذي دار ما بين الهرمين “اينشتاين” و”نيلس بور” ما بين سنة 1925-1930.
يمكن النظر إلى “اينشتاين” باعتباره أحد أبرز الآباء المؤسسين لفيزياء الكوانتا، وهذا راجع لاكتشافه للتأثير الكهرو-ضوئي وفهمه المباشر للمشكل الرئيسي الذي يخص الربط ما بين الخاصيتين الموجية والجسيمية للضوء. لكن بعد التطور الذي شهدته الصورنة الرياضية  القائمة على وصف احتمالي للعالم سنة 1925، انتفض اينشتاين ضد هذا الوصف معتبرا إياه غير مقنع وغير كاف. فمثلا إذا ما عملنا على قياس العزم المغناطيسي moment magnétique لذرة فضة داخل جهاز مخصص لهذه العملية، فإن الصورنة لا تتوقع بيقين نتيجة القياس بحيث لا تمنحنا سوى احتمال الحصول على هذه النتيجة أو تلك.
يرى “اينشتاين” بأن نظرية فيزيائية أساسية يلزمها أن تكون قادرة على أن تتوقع بدقة نتيجة القياس بالنسبة لكل وضعية من الوضعيات. لذا، لم يكن مقتنعا بتاتا بعلاقات اللايقين  relations d’incertitude (أفضل تسميتها بعلاقات التشتت relations de dispersion) التي صاغها “هايزنبرغ” والتي تقر باستحالة المعرفة المتزامنة والدقيقة لعدد من الخصائص الفيزيائية: هكذا إذا كنا نعرف، على سبيل المثال، سرعة اليكترون بدقة عالية، فإن الصورنة الكوانتية تقر باستحالة تحديد موقعه.
تكشف هذه المسألة في نظر “اينشتاين ” حدود النظرية، وبالتالي من الضروري أن تكون هناك نظرية أعمق بمستطاعها الوصف المفصل للظواهر. لهذا السبب نجده يتفنن في بناء تجارب ذهنية، أي تجارب مستحيلة الإنجاز لعدم وجود أجهزة متطورة للقيام بها فعلا، لكنها قابلة مع ذلك للإنجاز مبدئيا. يلزم أن تخضع تلك التجارب لكل القوانين المعروفة في الفيزياء حتى وإن لم يكن بالإمكان القيام بها في المختبر. لقد تخيلها اينشتاين لبيان أن علاقات التشتت التي عرضها هايزنبرغ، مع الحدود التي تفرضها، هي مؤشر دال على أننا أمام نظرية غير مكتملة البناء الأمر الذي يلزم معه إيجاد نظرية أكثر اكتمالا.
ظلت السجالات الملحمية التي دارت ما بين “اينشتاين” و”بور”، خصوصا في مؤتمر سلفاي Solvay الذي انعقد سنة 1927، مشهورة إلى الآن. لم يتوقف خيال “اينشتاين” عن تصور أكثر الوضعيات غرابة للبرهنة على عدم انسجام النظرية الكوانتية. لكن “بور” كان دوما في الميعاد متمكنا بذلك من العثور على الرد الملائم على اعتراضات “اينشتاين”. هكذا تمكن “بور” من البرهنة على أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار مجمل القوانين الفيزيائية، بما فيها تلك التي تمكن اينشتاين نفسه من اكتشافها وعلى رأسها النسبية العامة، فإن الوصف الكوانتي خال من الأخطاء المنطقية. نستطيع القول في هذه المرحلة بأن رد “بور” كان مقنعا. لكن النقاش سيطفو إلى السطح مرة أخرى سنة 1935 حين تعرف اينشتاين على خاصية جديدة مميزة للفيزياء الكوانتية وهي: خاصية التشابك intrication، والتي سوف نعود إليها لاحقا. وأمام هذه الوضعية لم يتمكن “بور” هذه المرة من العثور على جواب مقنع تماما.
وحتى نبقى في سياق النقاشات التي دارت سنة 1927، فإن عدم الارتياح الذي أبداه اينشتاين له ما يبرره، وسبب ذلك غرابة الثنائية المذكورة أعلاه، أي ثنائية الموجة-الجزيء. لقد تمكنتُ، بداية ثمانينيات القرن العشرين، بمعية أحد طُلابي في سلك الدكتوراه وهو فيليب جرونجي Philipe Grangier، من انجاز تجربة مكنتنا من تقديم تفسير لتلك الظاهرة (ثانية موجة-جزيء). لقد تمكنا، ولأول مرة، من إنتاج فوتونات متفردة، منفصلة عن بعضها البعض، ثم أرسلناها الواحدة تلوى الأخرى على رقيقة شبه-عاكسة lame semi-réfléchissante. هذه الرقيقة قد تكون مثلا كوبا اخترقه شعاع ضوء أو حزمة ليزر، بشكل يتمكن جزء منه (من الشعاع أو الليزر) من النفاذ عبره، في حين ينعكس الثاني على سطحه. توجد رقائق عاكسة تسمح بمرور 50% من الضوء وتعكس 50% المتبقية منه.
فإذا ما أرسلنا فتونا إلى رقيقة شبه-عاكسة، معتبرين إياه جزيئا فعلا، فهل سينشطر إلى اثنين؟ كلا، لن يحدث ذلك لأنه جزيء أولي، ومن ثم لا يمكنه الانقسام. إنه سيتأخذ هذا المسار أو ذاك. وبفضل أنظمة متطورة جدا لفرز الفوتونات، والتي تم ابتكارها لأجل تجارب أخرى سنتطرق إليها فيما بعد، أوضحت بمعية “فيليب جرونجي” بأن هذا ما يحدث فعلا. إلى الآن لا شيء مثير قبليا.
يظهر الجانب المثير حينما نتذكر بأن الضوء ليس مكونا فقط من جزيئات، بل يلزم اعتباره أيضا كموجة. وعليه، إذا ما سقطت موجة فوق رقيقة شبه-عاكسة ما الذي يُنتظر حدوثه؟ إنها تنقسم إلى اثنين، وهو ما نثبته تجريبيا باستخدام مرآتين بغاية إعادة تركيب الحزمتين الصادرتين عن الحزمة الأولية. هكذا نلاحظ تكون شرائح تداخل franges d’interférences، أي أشرطة لامعة وأخرى مظلمة.
فحين تمتزج الموجتان الثانويتان، فإن تذبذباتهما oscillations قد تكون إما في طور en phase وبالتالي ينضافان إلى بعضهما البعض، أو في تعارض الطور en opposition de phase فيصير مجموعهما مساويا لصفر. تشكل النقاط حيث ينضافان إلى بعضهما البعض الشرائح اللامعة، في حين تتشكل الشرائح السوداء عند النقاط التي يلغيان فيها بعضهما. وعليه، إذا كان الضوء موجة عن حق، فإننا ننتظر ملاحظة تكون تداخلات. هذا بالضبط ما حدث أثناء إجراء تجربة الفوتونات المتفردة.
لكن كيف يا ترى يمكن ملاحظة شرائح بيضاء وأخرى سوداء مع أن الأمر يتعلق بفتونٍ واحدٍ؟ الجواب هو أنه يجب تكرار التجربة مرات عديدة. من الناحية الاحصائية نلاحظ قدوم الفوتونات إلى الأماكن اللامعة وليس المظلمة البتة. وعليه، نحن على يقين بأن الفوتون الواحد يتصرف في هذه التجربة تصرف الموجة.
في تجربة التداخل تنشطر موجة الفوتون إلى اثنين عند اصطدامها بالرقيقة الشبه عاكسة لتختلط من جديد بعد ذلك، في حين أن التجربة الأولى توضح بأن الفوتون، عند وصوله إلى تلك الرقيقة، يسير في هذا الاتجاه أو ذاك وليس في الاتجاهين معاً. فكيف يمكننا إذاً التوفيق ما بين وجهتي النظر هذه؟ هنا تكمن كل الصعوبة.
رأى “بور” في التكامل complémentarité مخرجاً لتخطي الصعوبة. ماذا يعني هذا؟ يعني استحالة القيام بالتجربتين معاً بشكل متزامن. لذا يجب الاختيار: إذا وضعنا جهازي الرصد خلف الرقيقة الشبه عاكسة، الأول على المسار المُرْسِل والثاني على المسار العَاكِسْ، فإننا سنلاحظ بأن الفوتون سيسير في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن ليس هناك إمكانية لحصول أي تداخل ما دام قد حصل تدمير الفوتون؛ وإن نحن أردنا ملاحظة التداخل، فإنه يلزمنا ترك الموجة تنشطر لتختلط من جديد، وفي هذه الحالة سيصبح من المستحيل إثبات مروره من الاتجاه الأول أو الثاني وليس من الاتجاهين معاً. هكذا يلزمنا استخدام أجهزة مختلفة وغير متلائمة بحسب ما إذا كنا نود ملاحظة هذه الخاصية أو الخاصية المتكاملة.
ابيستمولوجياً ذهب “بور” بعيداً نوعاً ما حين أكد على أن جهاز القياس نفسه هو المسؤول، بمعنى من المعاني، عن تحديد خصائص الموضوعات التي نلاحظها. وعليه، إذا كان لدينا جهاز قياس قادر على كشف الخاصية الجسيمية، فإن الفتون سوف يتصرف كجسيم وإذا كان الجهاز المستعمل هو مقياس-التداخل interféromètre القادر على كشف السلوك الموجي، فإن الفوتون سوف يتصرف كموجة. لكن طريقة عرض وجهة النظر هذه ساذجة جداً، كما علمنا ذلك فيزيائي متميز مات قبل بضع سنوات، ويتعلق الأمر ب”جون ارشيبلاد ولير” John Archibald Wheeler. لقد أخذ هذا الأخير على محمل الجد فكرة “بور” حول دور جهاز القياس في تحديد خصائص الموضوع.
وعليه، قدم الاستدلال التالي: “يُلاَحِظُ”، على سبيل المثال، الفوتون، عند بلوغه الرقيقة الشبه-عاكسة، بأن الجهاز مُصَمَّم لتحديد الاتجاه الذي سوف يسير صوبه، وبالتالي يتصرف كجزيء. لكن، إذا ما تم وضع الجهاز الثاني، فإن الفوتون “سَيُلاَحِظُ” هذه المرة بأن الأمر يتعلق بمقياس-التداخل الذي سوف يعتبره موجة، من ثم سيتصرف باعتباره كذلك (موجة). هي إذاً طريقة مُصَوَّرَة للتعبير عن فكرة كون الجهاز هو ما يحدد الخاصية التي تمت ملاحظتها في النهاية.
تتمثل فكرة وِلِير الرائعة في الإقرار بأن لا شيء يجبرنا على الاختيار ما بين الجهازين حين يبلغ الفوتون الرقيقة الشبه-عاكسة الأولى. فإذا ما كان الجهاز كبيراً بما يكفي، قد لا نكون قد حسمنا بعدُ في اللحظة التي يبلغ فيها الفوتون الرقيقة ومن ثم وجوب أن “يختار” الذهاب لهذه الجهة أو تلك أو الانشطار إلى اثنين للاتجاه في الجهتين معاً وفي الآن نفسه. يُطلق على تجربة ولير هذه اسم تجربة الاختيار المُؤَجَّلْ. 
أُنْجِزت هذه التجربة في معهد البصريات سنة 2007، من قِبَلِ مجموعة جون-فرنسوا روش Jean-François Roch بالمدرسة العليا لكاشان Cachan (والمسماة حاليا بالمدرسة العليا باريس-سكلاي Paris-Saclay). كانت فكرة القيام بها من اقتراحي واقتراح فيليب جرونجي Philippe Grangier ، ذلك لأننا فهمنا أهميتها منذ سنة 1986 مع أن التقنيات المتوفرة أنداك لم تكن لتتيح إجراءها. مكن، في تجربة 2007، مقياس-تداخل بطول خمسين متراً من منح ما يكفي من الوقت للفوتون لاجتياز الرقيقة الأولى و، عشرين مليار من الثانية بعد ذلك، الاختيار ما بين رصد المظهر الموجي أو الجُسيمي. أبانت التجربة على أننا نلاحظ فعلاً المظهر المقابل للتشكيلة النهائية القائمة، والحال أنه لم يتم بعد اختيار الرقيقة الأولى في اللحظة التي يجتاز فيها الفوتون هذه الأخيرة. يوضح هذا الأمر مدى صعوبة مَفْهَمَة ثنائية موجة-جزيء. فضلاً عن ذلك، لدينا صورنة رياضية تتيح تفسير هذه المسألة بطريقة متماسكة. يُمْكِنُنَا إذاً الوثوق في هذه النظرية، لاسيما وأنها قد حققت نجاحات باهرة. 
(1) Aspect Alain : Einstein et les révolution quantiques, CNRS Éditions/De Vive
Voix coll. « Les Grandes Voix de la Recherche » PARIS ? 2019.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(°) مترجم وباحث مختص في فلسفة العلوم، من أعماله ترجمة كتب “رحلة قصيرة في عالم الكوانتا” لإتيان كلاين، “الموضوع الرباعي – ميتافيزيقا الأشياء بعد هيدجر” لغرهام هرمان، و”من الكينونة إلى الصيرورة” لإليا برجوجين، “مسألة القياس في الفيزياء الكوانتية: الأسس العلمية والتداعيات الفلسفية والإبيستمولوجية “…
error: