حركة الكواكب والمجرات السماوية بين رؤية فقهاء الدين واجتهاد علماء الفيزياء

256
  • محمد اگریران (°)
مجرد وجهة نظر وبكل احترام لأي رأي من أجل الخوض في نقاش هادئ يروم الكشف عن الصواب بمنظار عقلاني ونسبي لتحديد ما ورد في القرآن الكريم من آيات تتطرق للكواكب والنجوم والأفلاك وجريانها ووظائفها، ومن جهة ثانية تحديد ما توصلت إليه العلوم الفيزيائية بدقة بالغة للفضاء الكوني ومجراته، يمكن محاولة الإدلاء بمعلومات ذات مرجعيات دينية وعلمية، وذلك قدر الاستطاعة بمراعاة النسبية في تحديدها ولكل رأيه في أي أمر.
فإن كان القرآن الكريم يقدم حقائق نهائية وقطعية ومطلقة، وبما أن الله غير غافل عما يجري في الكون فقد تتضمن آياته في شأن الكواكب والنجوم والأفلاك وجريانها ووظائفها مثنا يجعلها مربوبة لخالقها ومسخرة بأمره وخاضعة الله.
وقد نزلت هذه الآيات بشكل عام مثل ما في سورة الصافات: “إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ”، وفي سورة الانفطار: “وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ”، وفي سورة الواقعة: “فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم”، وفي سورة لقمان: “وَسَخَّر الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلى أجَل مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ومن المعلوم أن القرآن الكريم ليس بكتاب علوم طبيعية، وإنما هو مثن إلهي تم نزوله لهداية البشر إلى خالقهم وكيفية عبادته بمعنى كون المقصد الأساسي للقرآن هو هداية الإنسان.
لكن الفقهاء المفسرون بتأويلهم تحت طائلة ما، انطلقوا مما ورد في القرآن من آيات في مجال الطب والجيولوجيا والفلك… محوالين الوقوف فقط على تكرار بالقول أن القرآن سباق في التطرق لما أتت به العلوم الدقيقة و مؤكدين على قدرة الخالق على خلق الكون وإعادته كما خلقه من دون قدرتهم على الخوض في تحديد وتحليل وتدقيق وتفسير مذا النسق الرباني، ويبقى تأويلهم دائما متوقف على قياس ما يتم اكتشافه علميا بما ورد في القرآن .
لأن وظائف التحليل والتدقيق والتفسير العلمي الدقيق، تتوقف فقط على عاتق العلماء خاصة الفيزيائيون الذين تمكنوا من اكتشافات علمية دقيقة أبهرت الإنسان وأفادته، مع العلم كون البحوث العلمية التي قدمها هؤلاء العلماء من خلال فرضيات وإجراءات مخبرية واستخلاص نظرياتهم فيها حقائق غير نهائية، بل هي حقائق نسبية ومقيدة بحدود عقل الإنسان، وقابلة للتغيير والتعديل والحذف والإضافة والاكتمال ، وهذا ما عمل عليه العلماء بالتتابع .
ولتوضيح هذه المعطيات، لابد من التوقف بالمختصر على ما عرفته العلوم الفيزيائية من تطور مستمر عبر التاريخ؛ إذ لما كانت الفيزياء منصهرة مع الفلسفة حتى أواخر القرن 18م وبحلول القرن 19م، تمكنت هذه العلوم الفيزيائية من الاستقلال بعد الانفصال عن باقي العلوم وعن الفلسفة بالطلاق النهائي مما اتاح لها فرصة العمل بحرية واستقلالية ومنحها صفة العلم الدقيق القائم بذاته والمتميز بتخصصاته، مستمداً عناصر مجالاته بشكل اساسي من علم الفلك والبصريات والميكانيكا ….
فسارت هذه العلوم تتحدد في الميكانيكا الكلاسيكية الديناميكا الحرارية الميكانيكا الإحصائية الكهرومغناطيسية، الالكترونيات الميكانيكا النسبية، نظريات الأوتار، ميكانيكا الكم والبصريات والفيزياء الذرية والجزيئية وفيزياء المواد، المكثفة وفيزياء الطاقة العالية الجسميات والفيزياء النووية.
وبما أن علوم الفيزياء تتعامل مع مزيج المادة والطاقة فإن الفيزيائيون استخدموا مجموعة من الأنظمة المتنوعة لتفسير الكون وتحديد نظريات في شأنه، وذلك بعد إجراءات مخبرية تجريبية متكررة ومتعددة بغية تحديد دقتها وصلاحيتها؛ كما أن أينشتاين أكد على ضرورة الإبداع في المجال النظري دون إقصاء التجربة التي جعلها كمرشد عمل، وكذلك اجتهاد پوپر وتأكيده على وظيفة التفنيد والتكذيب لبلوغ الدقة العلمية .
ذلك تبقى التجربة منطلقا أساسيا لاستخلاص النظريات وصلاحيتها. فخلال القرنين 16 و17م عرفت أوروبا ثورة علمية جعلتها في صرح النهوض وعدم الرضى بالنهج الفلسفي المهيمن في الدراسات فطالبت بالإصلاح والتجديد في المناهج التعليمية ، وبهذا اصبح الوصف الرياضي مضافا في الميكانيكا وعلم الفلك وبدأ البحث في التفسير العلمي لإحداث الكون وما يتحكم فيه؛ إذ قدم كوپيرنيك (1473-1543م) طفرة كبيرة في مجال الفلك، مقدما تخطيطا دقيقا لحركة الكواكب، مما جعل نموذجه كثورة علمية على المسلمات الشائعة المدعومة كنائسيا والمروجة لمدة 1400سنة.
ومن هذا المنطلق، تمكن كيبلير يوهانس (1571 – 1630م) من صياغة معادلاته عن حركة الكواكب التي لازالت مستخدمة حتى الآن؛ أما جاليلي (1564-1642 م) فقد ساهمت تجايبه العلمية في تطوير التليسكوب ومستعينا بالفكر الفلسفي خصوصا في التحليل الرياضي للأرصاد الفلكية كالشمس والأرض والقمر والكواكب مؤكدا على أهمية الفلسفة في تحديد الخطأ والصواب في الأفكار العلمية (الائستيمولوجيا حاليا، فأصبح مسؤولا عن ميلاد العلم الحديث مع تأكيده على صحة نموذج كوپيرنيك مما جعله عرضة لمحاكم التفتيش الكنائسية التي حكمت عليه بالإقامة الجبرية والتخلي عن رأيه؛ لكن العلم سيأخذ مجراه دون المبالاة لرأي الدين الكنائسي وغيره .
ولما أتى نيوتن، استخدم علم الميكانيكا لدراسة علم الفلك كمنظومة علمية عقلانية لشرح كيفية عمل الكون، فصاغ القوانين الثلاثة بصد الحركة التي تربط القوة المؤثرة على الجسم بحركته، وقانون الجاذبية بغية فهم مسار وسلوك الكواكب والأجرام السماوية الأخرى، كما قام بتطوير حساب التفاضل والتكامل (وقد كان الفيلسوف لايبنتز يعمل على إنشاء هذا الفرع في نفس زمن اشتغال نيوتن).
مما سبق الإدلاء به، يبدو كون هؤلاء العلماء في تتابعهم، كانت عملية بناء العلوم الفيزيائية مسترسلة ومتكاملة وغير متضاربة، مما يحيل إلى كون ما تم تقديمه كمادة علمية على فترات متتالية بكون هذه العلوم ذات طابع نسبي، ولكنها قدمت تفسيرا فيزيائيا دقيقا ومتكاملا للكون .
في حين اقتصر المفتون الكنائسيون على تجريم هذه البحوث العلمية، وتوقف مفتو الدين الاسلامي على الاستعانة بآيات قرآنية وتأويل مضامينها بالتأكيد فقط قولا على السبق الزمني في تحديد المجرات الكوكبية، من دون القدرة على تفسيرها وتحليلها، والسبب الحائل دون ذلك كون مقاصد القرآن الكريم توقفت في معظم آياته على هداية الإنسان والعلم لله ففقهاء الدين.
بما أنهم لم يتمكنوا من بلوغ مرتبة العلم الدقيق، فقد اكتفوا فيما ادلوا به من فتاوى واراء بالركون وتكرار مقولة سبق الدين في الإدلاء لما أتى به العلماء الفيزيائيون وغيرهم من أهل العلم الدقيق، دون القدرة على المحاججة واستشفاف ما في مثن النص الديني من حقائق لا يعلمها إلا الله متجاهلين لقوله تعالى “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، ولقوله تعالى بكون نفوذ أقطار السموات يتطلب السلطان أي العلم…. وفعلا ربما أدرك العلماء هذه الإشارة واستوعبوها وعملوا بها .
مما سيق أعلاه من جرد بسيط ومتواضع وقابل لإعادة القراءة والنقد العقلاني، يبدو من جهة ما قام به علماء الفيزياء بتقديم نظريات دقيقة علميا في شأن مجرات الكون بعد معاناتهم من مرارة وقسوة الحياة ومن بطش محاكم التفيش والتحريض عليهم بكونهم ملحدين، إلا أن بعض الأمم ارتقت حاليا وسيطرت على الكون وطوعته لفائدة الإنسان بفضل نظريات هؤلاء العلماء.
أما الفقهاء اقتصروا على فتاوى التحريم والتجريم بشكل قاسي وتشويهي للعلماء، كما اجتهدوا فقط في فذلكة الكلام من دون جدوى وفائدة بصدد العلم الدقيق سوف يعقب البعض بوجود علماء مسلمون، صحيح ذلك لكنهم لم تكن بحوثهم مستخلصة من النص القرآني، بقدر ما كانت اما ذات بعد فلسفي أو منطقي أو رياضي…مع العلم أنهم عانوا من تلفيق تهم الهرطقة والزندقة والإلحاد… للحيلولة دون اجتهادهم لبلوغ العلوم الدقيقة وهذا موضوع آخر يمكن معالجته مستقبلا.
وخلاصة القول وانطلاقا من قاعدة “لا” قياس مع وجود الفارق”، فإن كانت حقائق القرآن الكريم مطلقة ونهائية وقطعية وغير قابلة للتغيير، بل إنها مقدسة وهنا تكمن عظمة الله سبحانه، فإن بحوث الإنسان اتصفت بالنسبية وقابلية التعديل والتطوير مع تطور عقلية الانسان.
(°) فاعل تربوي مهتم بالفلسفة وعلم الاجتماع
error: