سعيد منتسب.. قاص مغربي يجعل الحكي بوصلة للتيه الجميل

94
  • عبدالعزيز كوكاس (°)
لا يكتب سعيد منتسب لمجرّد أن يقصّ الحكايات، بل يكتب ليمارس نوعا من الانزياح عن المألوف. إنه حفار في طبقات المعنى، يبحث عن لحظات التوتر الخفية بين الدوال والمدلولات، بين الشخصيات وعلاقاتها المتوترة دوما بالفضاء، عن تلك الهوامش التي تنبض بالحياة أكثر من المتن. نصوصه ليست مساحاتٍ صلبةً ومحدّدة تبحث عن شجرات أنساب، بل هي أفقٌ مفتوحٌ على التأويل، حيث يتجاور الواقعي بالحلمي، والعابر بالمطلق، والعجائبي بالغرائبي.
سعيد منتسب قاص مجرب بامتياز، تنبض قصصه بحياة متوهجة تتنقل بين أروقة الواقع وأعماق الحلم. هو صوتٌ يتسلل إلى عمق الوجدان، ليصنع مضغة القصص بكلماتٍ من تعب ولعب، تُحيي أحزان الإنسان وتفضح عناده أمام تساؤلات الوجود.. في عالمه السردي، تلتقي حواف الواقع بتجاويف الذاكرة، وتندمج المأساة بالفرح في لحظة صوفية، حيث يمتزج الزمان بالمكان، وتصبح الحكاية رحلةً لا نهائية نحو الذات.
منتسب أكليل قصصي لا يكتب عن البشر كحالات وكشخوص فحسب، بل يكتب عن الروح التي تسكنهم، عن تلك اللحظات التي ينحني فيها الزمن، فتتداخل الحقيقة مع الخيال، وتصبح العوالم الخارجية مرآة لداخل الإنسان. في كل قصة يرويها، يخلق عوالم موازية، يسلط الضوء على التمزق الداخلي والقلق الوجودي، بلغةٍ شاعرية تشف عن تأملاتٍ عميقة في معنى الحياة، الزمن، التاريخ، العالم.. لا تقود قارئه إلى أي يقين، قد تجد نفسك أمام فم تنّين أو في عمق قبو، أو ضد الجميع، أو تشبه رسوم الأطفال، أو طائرا أبيض بأجنحة مؤقتة، القلق هو بوصلة منتسب في هذه السوريالية المعممة في كتاباته التي تشبه ريحا يداعب الصخر حتى يكاد يئن وهو يتفتّت.
التفكير الدائب في أدوات الكتابة
سعيد منتسب ليس مجرد راوٍ للحكايات، بل هو مفكّر في جوهر الكتابة ذاتها وفي أدواتها. يضع شخصياته في مواقف تبدو مألوفة، لكنه يزحزحها عن مكانها المعتاد، ليضعها أمام أسئلة جوهرية تتعلق بالزمن، بالغياب، بالحقيقة المراوغة. نصوصه تعجّ بشخصياتٍ تبحث عن نفسها، تحاول أن تلتقط ظلالها وسط ضجيج العالم، لكنها تدرك، في النهاية، أن الوجود نفسه لغزٌ عصيٌّ على الإدراك.
يلمع اسم سعيد منتسب عاليا في سماء السرد المغربي والعربي، رفقة كوكبة تشتغل في ذات المجرة بأفق تجريبي لا يفتأ يتجاوز كتاباته ذاتها باستمرار، ينهل من معين القصة بروح شاعر، ويصوغ عوالمه السردية بحسٍّ تأملي عميق. قاصٌ ينقّب في التفاصيل ويستدرج المعاني من ظلال الكلمات، فيجعل من الحكي تجربةً للغوص في جوهر الأشياء. وكأن الجملة عنده كائنٌ حيّ يتنفّس ويتحرّك في فضاء الكتابة. الكلمات لديه كائنات تنمو وتتفاعل، تحيل على دلالات لامتناهية، لا تقدم نفسها دفعة واحدة، بل تنسج علاقاتٍ سريةً بين الصورة والإحساس، اللغة والهامش وبين المرئي واللامرئي.
في نصوص سعيد منتسب، هناك دائما ذلك الإحساس العميق بأن ما نقرأه ليس مجرد قصص تُروى، بل هي شظايا حياة، مقاطع من ذاكرة فردية وجماعية، محاولات لإعادة رسم ما مضى بطريقة تجعل منه أكثر كثافةً وألماً. إنه يكتب كمن يلتقط صورا لعالم في طور التشكل، وكمن يدرك أن الكتابة هي شكلٌ آخر من أشكال المقاومة ضد النسيان. وأنه كاتبٌ يجعل من القصة مختبرا للسؤال، ومن اللغة مرآةً للتوترات الداخلية التي تسكن الذات.. في عوالمه، لا توجد نهايات مغلقة، بل أبوابٌ مفتوحة على الدهشة والقلق والاحتمال. إنه كاتب يسكنه الحكي، لكنه أيضا كاتب يسكن الحكي ذاته، يعيد تشكيله، يوسّعه، ويمنحه أفقا أكثر رحابةً وتأملا.
حساسية شعرية في قلب السرد
يتميز منتسب بأسلوبه السردي العميق والمتجدد، حيث يعكس من خلال قصصه تجارب مفتوحة على مآزق الهوية، والتاريخ، والمجتمع، والمعنى في الوجود… بأسلوب مسكون بالشعر وبالكثافة اللغوية المركزة التي تحلق بين الواقع والخيال، بين الغريب والعجيب، بين السحري والأسطوري… كتابة ساحرة حقا حتى أني تمنيت لو تطول قصصه القصيرة أكثر مأخوذا بنزوعه الحلمي والسوريالي إلى أبعد الحدود. تستمد كتابته فرادتها من قدرتها على خلق انزياحات لغوية تُربك التلقي المألوف. لغته مشدودة إلى أقصى درجات الكثافة، حيث يتجاور الشعري مع السردي، والواقع مع المجاز. كل قصة تُبنى داخل القارئ بقدر ما تُبنى داخل فضاء الصفحة..
يغوص منتسب في العمق النفسي لشخصياته التي تبحث عن معنى لحياتها في سياق معقد من التحديات. يمتاز نصه بالرمزية والكثافة العالية، حيث يُدخل القارئ في عوالم متنوعة تتراوح بين الأسطورة والواقع، بين الحلم والمأساة… ويُنير دربه بحكاياته التي تنبض بالحياة والتوترات الداخلية التي تكمن في الإنسان. قد تبدو شخصياته وكأنها في صراعٍ مع العالم، لكنها في واقع الأمر، في صراعٍ أعمق مع ذواتها، مع أسئلتها التي لا تجد إجابات. أتخيله في كل أعماله، يتسلق الجبال الشاهقة لأفكار الإنسان، يغمض عينين وينفتح قلبه على المسارات الضبابية التي تلوح أمامه في كل زاوية. حيث لا توجد حدود بين الأمل واليأس، وبين الضوء والظلال. كل شيء يتداخل في إطارٍ فني، يُذكّرنا بأننا نعيش بين ثنايا الحلم والواقع، في سعيٍ دائمٍ لمعرفة ما نجهله.
في أسلوبه، تتجسد فلسفة الحياة بمرارة وجودية، حيث القلق والتوق الدائم للحرية، والرغبة في الانعتاق من قيودٍ قد تكون وهمية أو حقيقية. هذه الأسئلة الوجودية، التي ينسجها بعناية بين السطور، تتناثر في قصصه كغبارٍ يغطي عتمة الواقع، لتكشف عن تلك اللحظات التي تلمس فيها الروح عذوبتها أو مرارتها، وفي كل مرة، تكتشف شيئا جديدا عن نفسها وعن العالم الذي يحيط بها. سعيد منتسب ليس مجرد قاص، بل هو شاعر يعزف على أوتار الحياة بشفافيةٍ، محاولا فهم هذا الكون الغامض، ورسم الطريق الذي يجمع بين أحلامنا، وقلقنا، وخوفنا، وأملنا..
حين نلج عوالم سعيد منتسب القصصية، نجد أنفسنا أمام فسيفساء سردية مشحونة بالتوتر، حيث تتماهى التفاصيل اليومية مع البعد الحلمي، وينهار الحد الفاصل بين الواقعي والمتخيل. إنه معماري شغوف بإعادة تشكيل العالم وفق رؤى تتجاوز حدود المألوف، موظفًا طاقة المجاز والتكثيف الشعري لصياغة قصص تبدو وكأنها شذرات من حلم يتخلل اليقظة. مجموعاته ضد الجميع، تشبه رسوم الأطفال، وطائر أبيض بأجنحة مؤقتة ليست فقط مدونات .سردية، بل هي خرائط وجودية تشي بقلق الإنسان في مواجهة عبثية العالم.
ينحاز سعيد منتسب إلى الشخصيات التي تعيش على الحواف، حيث تنبعث قصصه من زوايا معتمة، مأهولة بأصوات تتكلم بلسان الكسر والتشظي. يقاوم نمطية السرد، ويتحول الصوت الداخلي للشخصيات إلى صدى يفتح للقارئ أفقًا لتأمل هشاشة الوجود الإنساني. إن العزلة، في قصص منتسب، ليست مجرد ظرف، بل حالة وجودية تُكتب بحدس شعري عالٍ.
تبدو قصص سعيد منتسب ككائنات ضوئية، تعبر المشهد السردي بخفة، لكنها تترك أثرا عميقا في نفسنا. إنه يكتب ليحفر في المعنى، ليجعل من الكتابة نفسها فعلاً وجوديًا يقاوم الاندثار. عالمه القصصي ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو مختبر لغوي وجمالي يعيد تشكيل هذا الواقع وفق رؤى تتأرجح بين الحلم والانكسار. وبينما نغلق الصفحة الأخيرة من قصصه، نظل معلقين بين الطيران والسقوط، بين السؤال والإجابة المؤجلة.
(°) إعلامي وكاتب مغربي
يومية “الزمان” الدولية
error: