في مشرحة عبد الكريم الخطيبي: الكتابة بوصفها تمزيقاً للوجود وانتصاراً للهامش

52
  • عزالدين بوركة
يقول عنه رولان بارت: “إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصورة، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديدا، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها، يأخذني بعيدا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني الطرف الأقصى من نفسي”. هكذا تحدث صاحب الدرجة الصفر للكتابة” عن العالم السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي والباحث الجمالي المغربي الذي اهتم بالحفر عميقا في حقول وميادين فكرية وإنسانية وسيميائية وجمالية متعددة..
لم تقتصر نصوص الخطيبي على الاشتغال البحثي والأكاديمي، والإقامة في أعالي الأوليمب، مبتعدا عن اليومي والهامشي.. إذ أبدع أيضا داخل عوالم السرد والشعر، وألّفَ نصوصه الحفرية بلغتهما البديعة، واهتم بالراهن وأسئلته، وبالفن وجمالياته. كتب منجزاته باللغة الفرنسية لكن بروح عربية، منشغلا بكل ما هو عربي ومغربي ومغاربي -وإن بدأ تجربته الإبداعية بكتابة الشعر باللغة العربية، وهو لا يزال تلميذاً، فتأثر خاصة بشعراء مثل المعري والمتنبي وبودلير وجبران وغيرهم، كما يؤكد مراد الخطيبي
كرّس كتاباته للخوض في أسئلة الهوية والمجتمع والغير وأسئلة الذات والجسد واللغة والفن… كل ذلك داخل مشرحته التي عنوانها الرئيس “النقد المزدوج”. نقد “ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الإيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة”، كما يعرّفه الخطيبي في كتابه الحامل للعنوان ذاته. هاجم وانتقد وفكّك الإيديولوجيا، لصالح فكر ونقد لا يتكئ على يقينيات ومسلمات وثوابت مطلقة، سواء لاهوتية أو تراثية أو تاريخية أو حتى عقلانية.
لهذا فخطابه النقدي وحفره السوسيولوجي كان دائما منفصلا عن التراثية والسلفية والعقلانية، وحتى التاريخانية والتاريخية.. لصالح الاختلاف والتعددية. فقد سعى إلى البحث عن معالم الاختلاف في الثقافة العربية والمغربية المحلية، بالرجوع لمتون وممارسات جمالية: الوشم، الكتابة عن الجسد والحكاية والثقافة الشعبية الشفاهية، وحتى فن الخط، هذا الفن الذي كرس له جملة من الدراسات والكتابات..
لقد فكك الخطيبي الخطاب العربي والخطاب الغربي على حد سواء، بلا أن يستكين إلى أي إيديولوجية أو خلفية مسبقة.. في محاولة للكشف عن “جراح الاسم الشخصي”، جراح الذات العربية (بالمعنى الذي يشتمل على باقي الاثنيات والأعراق).. لهذا ارتحل من الكتابة عن المركز إلى كشف وإعلاء الهامش.. “فكل كتابة نقدية لا يمكنها إلا أن تكون تمزيقاً للوجود التاريخي، تمزيقا ماحياً، بدءاً من تساؤله، دود هذا الاستبداد، أي المركز، الأصل، وتعارضات الدال/المدلول، المعقول/المحسوس. إنه نقد عرضي (لا تزال مساءلته في أولها) ربما تصبح مفاهيم الوجود والعدم، انطلاقا منه، متجاوزة”، يقول الخطيبي.
اهتمامه بالهامش، قاده إلى مقاربة الأعمال التشكيلية التي حللها، بوصفها “معادل موضوعي للمحكيات والأشكال والمأثورات الشعبية والعامة”. لهذا في كتابه “جراح الاسم الشخصي” – أو كما ترجم محمد بنيس عنوانه إلى “الاسم العربي الجريح”- فكك دلائلية الوشم والجسد والخط والحكاية واللوحة الصباغية وحتى الخطاب المرتبط بالمتعة واللذة.
لهذا انشغل الخطيبي بالعلامة، التي اعتبرها سمة الحضارة العربية.. ومن خلالها اهتم بالفن وتحليله من أبعاد متعددة، بما فيها السوسيولوجية والنفسية واللغوية، باعتماد مقاربة أساسها “النقد المزدوج”، “يتخذ طريقه بين-بين، بين هذه وتلك، وهو كما يقول “مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية”.. إذ يخبرنا عبد السلام بنعبد العالي.
راهن الخطيبي على المغايرة والاختلاف، الاختلاف الاجتماعي والاختلاف الثقافي والاختلاف السياسي واختلاف الوجود العربي، من حيث إن الاختلاف هو “حركة نقد مزدوج دائم”. لهذا رأى في الهوية -مثلا- مغايرة واختلافا، إذ إنها منذورة للحركة والتنوع والتبدّل لا ثبات الأصل.. بل إن الأصل عينه هو نتاج لحركة ما سبقه. ما دفعه إلى مقاربة ما سماه “اختلاف الوجود العربي”، من منطلق تفكيك التراثية والسلفية ومساءلة العلم والتقنية. فبقدر ما يرجع للتراث لا ليطمئن إليه ويقيم حده، بل ليفكك جذور كل التفكير العربي القائم اليوم على التراثوية والسلفية والتاريخانية (متخندق على الذات في الماضي)..
وما تحليله لكل ما هو معاصر وغربي، إلا من باب إيجاد كل تلك الجسور والمعابر التي قادت الغربي إلينا وأين يقيم فينا. “فالتقنية على كل حال، من أصل غربي. إنه بالنسبة إلينا، إرادة قوة مهيمنة واستعمارية, إنها، بمعنى ما، خاتمة المعرفة المطلقة. هل نقدر أن نحوّل لصالحنا إرادة القوة الخارقة هذه؟”، يتساءل الخطيبي، ويجيب: “ليست التقنية الشر في ذاته، ولا الخير في ذاته. إنها المصير الكوني للعالم”. وما نقده للتراثوية -كل نزعة تريد العيش في التراث والسلف- إلا باعتبار أنها ليست من التراث في شيء، بل إنها نسيانه. ولا يمكنها أن تكون كأفق للفكر والفن، في العالم وفي هذا الوطن العربي.
وإن العربي بالنسبة للخطيبي “هو ذلك الذي يقدم نفسه من حيث هو كذلك”. لهذا حينما يقارب الفكر والفن في هذه الجغرافيا، فإنما يقاربها تحت مسمى “العربي”، الذي يضم القبطي والأمازيغي والإسلامي واليهودي والمسيحي والكردي وغيرها من الانتماءات الهوياتية والعرقية المندرجة تحت لواء الجغرافيا الممتدة من المحيط إلى الخليج.. وهي الاثنيات والأقوام التي ساهمت في “حركة” الهوية العربية وتعددها.. لأنها كلها تندرج ضمن حضارة علامة واحدة، مأخوذة بالتصورات التاريخية والفنية نفسها.
لهذا فالفن العربي الإسلامي عنده، هو مظهر من مظاهر حضارة العلامة هذه التي تغدو صورة، كما يقول الناقد الفني عبد الله الشيخ، بينما الحضارة الأوروبية، منذ الإغريق، منحت الاستقلال للصور في علاقتها بالعلامة وسلطتها. إذ تعدّ –بالنسبة للخطيبي- عودة الفنان العربي إلى التراث واستحضار العلامات، إلا من منطلق ترويض الماضي، بقدر الحنين إليه، وأيضا ابتكار المستقبل حتى يتجرد العمل الفني وينفلت من الزمن.
استطاع عبد الكبير الخطيبي أن يرسم معالم توجّهٍ نقدي وتحليلي خاص، لا يرتهن إلى أي مسلمات أو إيديولوجية مهما كانت. هـمُّه الوحيد الكشف عن المسكوت عنه والمنسي والمتروك جانبا عمدا.. وإعادة الاعتبار للهامش.
error: