العالم من نظرة واحدة: قراءة في رواية “خط الزناتي” لشعيب حليفي

489
  • حميد ركاطة (°)
سيلاحظ القارئ لرواية “خط الزناتي” للأديب شعيب حليفي، لا محالة أنه ظل وفيا لوسطه، ومجاله الجغرافي الباذخ الشاوية، حيث يدهشنا بلمسته الساحرة، وهو يحقق قفزة نوعية على مستوى الكتابة، من خلال ارتكازه على كتابة بالحواس، إلى جانب اعتماد كتابة بصرية ساهمت في نحت اللغة الواصفة، وأمدتها بالكثير من المقومات المتميزة.
ترصد الرواية الواقع البائس والصعب، لشخصيات من بدو الشاوية، مغلوبة على أمرها، تعيش حياة قاسية، وترغب في الانعتاق، لتحسين ظروفها، لكنها لم تستطع أن تحقق مرادها، وهذا ما رصدته الرواية خلال أربع وعشرين ساعة، وإن كانت الأحداث التي ساهمت في تأثيث معمار الرواية تتجاوز هذا الوعاء الزمني بكثير. بفضل الاسترجاع، والتذكر، والرصد وهو ما نفح أحداثها بالكثير من القصص، وأمدها بحقائق التخييل الذاتي. ومكنها من قنوات خاصة سردت فيها الحكايات ليلا، ونسجت تفاصيها الباذخة من رحم خيال جامح.
ولعل الارتكاز على سرد تفاصيل يوم الحصاد العصيب وحيثياته المرئية واللا مرئية، نفحت الرواية بأنفاس أوهمتنا بواقعية أحداثها، وبتنوع شخصياتها (حيوانات، طيور نباتات، حشرات، أليات، أشخاص) وقد بلغت طبيعة العلاقات بين بعضها حد الانصهار، سواء أثناء العمل، أو أثناء السهر.
والسارد يعرض علينا تعاقدا زمنيا داخل دورة يوم واحد، يبدأ مع تلاشي غبش الليل، وبداية اللحظات الأولى للفجر. وينبهنا بكون كائنات الرواية “تمارس اختياراتها بكل حرية، وعن طواعية، وبكل أمانة ومسؤولية، وهي من قررت الخروج من الواقع بشكل جماعي، والهروب نحو الرواية لموصلة العيش فيها”، وهذا سيدفعنا إلى التساؤل عن أسباب هذا الهروب الجماعي، فهل ضاقت بها سبل العيش في الواقع إلى هذا الحد؟ ثم كيف يمكننا تعليل هذا النزوح داخل نص روائي يتعاقد معها على دورة يوم كاملة، من الفجر إلى الفجر، بينما تكشف فصول الرواية عن  أزمنة أبعد من ذلك؟
لقد اعتمد في تقديم الأحداث عبر تقسيم يوم الحصاد، إلى ستة أجزاء زمنية:
تبدأ مع الساعات الأولى للفجر”ساعة الفجر.. يتلاشى الليل..”
شروق الشمس: “يوم حصاد ابتدأناه مع شروق الشمس”
الظهيرة: “حلت الظهيرة ملتهبة في العراء وظلالها المتفرقة”
العصر: يزحف العصر بلا رجلين محاكيا آلة الحصاد”
الغروب: الشمس تتدلى كأنها دلو مثقل بالحمم في بئر مهجورة بلا قعر”
الليل: خبا ضوء النهار، وعادت الروح إلى سكينتها تلملم ما تستر به نفسها من نور الليل الأشد لمعانا”
الفجر: “هذه آخر أنفاس ليل يغرق بلا صخب في بحيرة غامقة اللون، ثم يستسلم ويترك الخيوط البيضاء الحليبية تغزل السدى للنهار”
 وتم التعبير عن الزمن بأحاسيس متضاربة تفاوتت من حيث التوظيف، بين الاستعارة والتشبيه، بتوظيف أسلوب شاعري أحال على إحساس عميق، من قبيل:
الليل سلطان بربري بسلهام أسود- مر النهار طويلا مثل راعي إبل وحيد- الليل مسمول العينين- ، أخشى أن يسرقوا الليل كما سرقوا النهار” – الحياة يوم واحد من صفحات كثيرة، كما تم توظيف أسلوب آخر ينم عن خشونة و قسوة من قبيل: “ماذا لو تهدم الجسر واستمر الليل” – هرول الفجر سريعا، حلت الظهيرة ملتهبة ، تتدلى الشمس كأنها دلو مثقل بالحمم  الغروب القاسي.
كما تم تناول مفهوم الزمن من خلال زوايا نظر أخرى، كشفت عن الرغبات الدفينة، والهواجس الخفية.
“تمنيت أن تكون لي نظرته -طائر بوصرندال- وأنا أنظر إلى الزمن”
الزمن مأوى الأسرار الهاربة في بحثها عن كهوف ترقد فيها أحلام تهفو للعودة إلى الحياة”، ” الزمن يتغذى على أعمارنا للحياة”، ” أنا الناموس.. أريد تغيير نفسي”، الليل مفتاح النهار والنجوم ملاذ التباريح”.
المكـــــان
في حين شكل المكان حقل حصاد بالنهار وضيعة بالليل، بها بئر، ومنزل تمت الإشارة إلى صالة كبرى فيه، استعملت كمكان لإقامة الاحتفال السنوي. مع الحديث عن أماكن أخرى، كالنفق أسفل القنطرة الآيلة للسقوط.
الفشل في الحب وفي الحياة والمعاناة هي القاسم المشترك بين شخصيات الرواية
الصور المفارقة داخل الرواية
ويمكن رصدها من خلال حوار الحيوانات فيما بينا، بحيث نسجت خطابا يتجاوز حدود الواقع، وخصوصية النوع كما هو الأمر بالنسبة للكلاب، وجنحت بنا نحو العجائبية والغرائبية، واستطاع السارد أن يكرس هذا الفعل كخطاب مألوف، يمتلك اواليات التبليغ ويضع صاحبه على نفس المسافة من غريمه. كما حدث بين موسى الزناتي والكلب الكرطيط، ونستشف من الحوار نوعا من التعالي، والمفاضلة، والكلب الكرطيط ينحت لنفسه مكانة أعلى من مكانة عيسى الذي فرط في حب الرحالية، والراعي الحيمر الذي تخلى بسهولة عن بنت دويدة. كما كشفت عن مؤهلات خارقة، باعتبارها كائنات تمتلك القدرة على قراءة الخط الزناتي، ولها إمكانات للرؤيا تضاهي قدرة باقي المتواجدين بمحيطها، نقل السارد بعضا منها، وجاءت على شكل متوالية بديعة. ضمن مشاهد مسرحية:
المشهد الأول:
عندما سخر الكلب الكرطيط  في حواره مع الكلبة سوسو، من عيسى  الذي فرط في بنت دويدة، والراعي الحيمر الذي فرط في الرحالية. مطاردة الراعي وعيسى للكلب، فتطايرت حبيبات التراب مفزوعة وقالت” عسى الله أن يأتي بريح تأخذكم وتترككم معلقين”
يخاطب الراعي حبيبات التراب: ألم تسمعي ما قاله الكرطيط؟
عقبت الحجارة على عيسى الذي كان يحملها في يده”(..)الكرطيط ليس عدوكم ولا عدوي. ابحثوا عن أعدائكم في أبناء عمومتكم”، وقد تبرأت من اقحامها في حرب ليست بحربها
عيسى للحجر: هل أنت مجنون !! متى كان لك قلب تحس به أيها الحجر. لقد تجاوزت ما هو مسموح لك به”/ وسيرصد السارد دهشة بقية الكائنات” قلت لهم جميعا وقد عادوا: كل ما قيل.. خروج عن صفحة الليل..”
المشهد الثاني:
حوار القنفذ مع الراعي
“هل تعرف أني سأكون مع من كنت تتمناها زوجة لك، بنت دويدة. تعال وتفرج علينا أيها العنين. انتهى الكلام، وارتاحت مدام!! 
المشهد الثالث:
تعقيب القنفذ على حديث الفقيه الحمادي والشيخ البرغوث
“لن أصمت حتى يركب القنفذ الحمار”
غمغم الحمار بالنهيق/ أسرعت سوسو بالنباح في وجهه/تدخل العطار محتجا، نعت الكلبة بالقنجيرة/ علا نباح الكلاب من خارج الضيعة مؤازرة الكلبة سوسو/ دخول موسى والعطار في ملاسنة / تكسير الراعي الحيمر للمشهد بعزفه على المزمار على إيقاع عيساوي/ انقطاع موسى وخيرة عن العالم.
وقد عقب موسى الزناتي على ما كان يحدث حوله، بعدما لاحظ دهشة خيرة الكناوية، التي طلبت منه أن يعلمها السحر، وعدم استيعابها لحقيقة ما كان يفعل. لم أشأ أن أخذل خيرة وهي التي تعتقد أني أعرف ألسنة الطيور والحيوان وأحاورهم، وأن سوسو تكلمني وأكلمها، وأنها ليست كلبة مثل كل الكلاب، وإنما وعاء يأخذ في كل مرة، الروح التي أريد أن توافق مزاجي”
المشهد الرابع:
تم توظيف السخرية عبر تمريرها من خلال الضحك، للتعبير عن أسرار الذيل، يقول السارد وهو يقدم لنا لقطة منفلتة من عقال زمن هارب. الكلب الكرطيط.. بعدما انتشى بنصره وهو عائد من معركته، عندما رفع نظراته نحو سوسو، هم بتحريك ذيله، فتوهم ثانية أن له ذيلا، لكنه سرعان ما انتبه أنه فقده في معارك سابقة لا يذكرها.. فشرعت سوسو تضحك”
وستشكل هذه اللقطة بإحالتها الزمنية، نواة لتمرير مفهوم السخرية، ونقطة انطلاق بناء صورة أكبر، يمكن إبراز تشكل مشاهدها بالتدريج كما يلي:
اللحـــظة
  • الكلبة سوسو” التقت عيناه الذاهلتان بعينيها المنفلتتين، فشرعت تضحك
  • بلغت عدوى الضحك باقي الكلاب الأخرى في الأقاصي فصارت تضحك وتضحك
  • وضحك عويسا وفاطنة زوجه والرحالية صاحبته،
  • تحول هدير الجوندر إلى ضحك
الانتقال من اللحظة إلى ساعة من الزمن
بعد ساعة سيصل الضحك المدينة، فيضحك الآدميون ضحكا لا منقطعا
  • يطول راكبي القطارات والحافلات المتوجه إلى باقي المدن، وكذلك الترامواي والباصواي وسيارات الأجرة والتريبورتورات والكراويل، وكل ما يدب بإحساس.
الانتقال من الساعة نحو الأربع وعشرين ساعة
وبعد أربع وعشرين ساعة فقط، ستكون كل البلاد تضحك وتضحك.
تشييد المفارقة:
وحده الكلب الكرطيط حاول أن يضحك فلم يعرف، وتأكد أن أسرار الذيل تخفي الكثير من المفاجآة”
فهل هناك أسرار للذيل؟ وعلى ماذا يحيل في الواقع؟ ثم لماذا شبه موسى الزناتي نفسه بالهدهد؟
لعل الإجابة على هذا الطرح قد نجده مندسا بين ثنايا هذه الفقرات التي مررت داخل الرواية بسياقات مختلفة. يقول السارد: وهو بأعلى شجرة الدردار الضخمة بالوادي وحيدا يمضغ وحدته المرة لما لم يجد زوجة تشاركه الحياة وتبيض له في العش” 165
وكذلك عندما اكتشف موسى الزناتي، بعد زيارة عدد من الأطباء، أنه عقيم إثر مرض نادر لا علاج له، ولا يمكنه أن يخلف من صلبه” فرضي بنصيبه دون أن يخبر زوجته كما أوصته أمه” 75
ملامح الكتابة الميتاسردية
من خلال حوار، للشخصية عيسى مع موسى الزناتي عندما طلب منه أن يلعب دور الوساطة وحكما بينه وبين الرحالية” أنت من يرسم لي الخطط ويحرر كل شيء.. أما أنا فمنفذ فقط، وشخصية مساعدة بإمكانك التشطيب عليها أو استبدالها”، ونلاحظ أن هذا الخطاب يتجاوز حدود التفاوض مع الرحالية، إلى مستوى آخر يطال أحد مكونات النص المكتوب أساسا (الرواية وشخصياتها)
الملمح العجائبي في رواية الخط الزناتي
إلباس الزناتي ثوب العجائبي من خلال الحديث عن قدراته ” له قدرة على الانصات لحديث الحيوانات، وفهم لغاتها، وقد نقل لنا السارد، غير ما مرة مضامين أغلب الأحاديث التي دارت بالقرب منه:
حوار الكلب الكرطيط وسوسو: “أنت في قيد وتتوهمين أنك في النعيم”
تحول الكلبة سوسو إلى وعاء للرؤيا بالنسبة لموسى الزناتي ومرآة عاكسة في نفس الوقت لما يفكر فيه، ويمكن الاستدلال باللحظة التي سألته فيها” كيف أدركت ما جرى لشيخك في السفح والجبل، وأنت لا تملك وثيقة بذلك، فأجابها” النفس تصفو وتغفو، ثم تدرك ما يدرك… هل أنا هناك، وهو هنا.. شيخي نجمة تربطني بحبل مفتول لا ينقطع”..
تعقيب موسى على صديقه المسكيني:
“من قال لك يا صاحبي أني عدت من هناك وأني معك الآن”
في مساء يوم غد، سنعود معا يا صاحبي إلى مدرستنا العتيقة، لعلنا نجد ثقبا في الزمن القديم، قبل ست وعرشين سنة، وهناك سأجد الجواب عن سؤالك وأسئلة سوسو والبوجعران.. وزد حتى عيسى وموسى والسويرح الحيمر”
المتواليات السردية
اللعب ضمن مستويات سردية بمتواليات لغوية ذات إيقاع، سرع وثيرة السرد، وجعلها على شكل دائري، يقول السارد: “تركت ترنيما متناغما وقويا، لفت انتباه سوسو التي حركت ذيلها وحولت نظرها نحو الكناوية، وهي تنظر نحوي، وأنا أنظر إلى الطفل الذي كنته، والطفل ينظر إلى الشيخ الزناتي جدنا، والشيخ الزناتي ينظر إلي، وأنا أنظر إلى الراعي، والراعي ينظر إلى عيسى، وعيسى ينظر إلى علي المسكيني الذي استفاق فجأة، وعلي ينظر إلى البرغوث، والبرغوث ينظر إلى الفقيه الحمادي، والفقيه الحمادي كان نائما.. وفي نومه ينظر إلينا جميعا”
إنها كتابة  كذلك تستنهض العواطف والحواس، وتساهم في تغذية المخيلة البصرية للمتلقي. من خلال ما يتسرب لذاته أثناء القراءة مما تحدثه أصوات الأشياء، من قبيل الآليات، والحشرات، والحيوانات، والنباتات، إلى جانب ما يتداعى من أصوات وهمهمات الشخصيات أثناء تحاورها المعلن، أو تسر به خلال ركونها للصمت. وهو ما يمنحنا فرصة للوقوف على مشاهد تتمازج فيها الحواس بمشاعر مختلفة، وأحيانا متضاربة.
وهو ما يدل على وعي الكاتب، وهو يلتقط مختلف التفاصيل عبر توظيف قاموس خاص، يحيل على حواسه المختلفة، من غمز، وإيماء، وتحديق، وإرهاف للسمع، والاحساس بالسفر نحو زمن الطفولة أو استحضار أزمنة ولت، تطفو بشكل مفاجئ لتؤثث حدثا معينا، أو تستعمل كتمهيد لبناء حدث آخر.. وهو ما ساعده على تنويع أسلوب الكتابة، لبناء عوالم توهم  بملمحها الواقعي، أو الغرائبي، أو العجائبي.
وبالتالي يمكن المتلقي من أن يجد له موطئ قدم داخل أحداث النص. فقارئ ” خط الزناتي” بقدر ما ستستهويه الكتابة البصرية، التي تعتمد الوصف في لغة السرد، وترتكز على حاسة البصر، فإنها كذلك لا تسمح له بتجاوز حدودها، في حين تمكنه الكتابة بالإحساس رصد ما تفكر فيه الشخصية، وما يعبر خاطرها، وما تشعر به جوارحها، وبانسياب الزمن، وتقلبات الحالة النفسية، ونقل مختلف الأصوات والحركات، عبر توظيف الحواس المختلفة من شم للروائح، وتذوق للأطعمة، ولمس للأشياء، لإثارة مخيلة القارئ فإلى أي حد يبرز توظيف مؤثرات هذه الكتابة وما دورها في بناء أحداث في هذا العمل الروائي؟
الكتابة على إيقاع العزف والغناء
يعمل السارد على الكشف عن أحاسيسه وما يخالجه خلال تلك اللحظة من شعور نحو الكناوية، بحيث سنلاحظ أن القصة التي تعرضها قصيدة لوشام الرقيق لمنشدها ولد قدور المزابي، ستكشف عن بناء اتخذ ثلاث مسارات:
المسار الأول للأغنية: بلسان ولد قدور مع غزالو” لالة يا لالة … كيف جرا لي مع غزالي .. يا فاهم لكلام”
المسار الثاني: الشيخ البرغوث من خلال أدائه سيرسم صورة زيرا”
لالة مولاتي يا لالة.. لالة يا غزالي زيرا.. كيف جرا لي .. حتى رسلت للحجام”
المسار الثالث: عبر الانصات ستحدث الأغنية تفاعلا بين موسى الزناتي والكناوية” دير لي يا سيدنا في كرش الكناوية جامع، دير المحضرة ودير اللواح مسطرة.. ودير الزناتي هو العلام”
وهذا ما أحدث فجوة وتسبب في رقص عارم بين الحاضرين، قالت خيرة” أما وقد علمت ما بقلبي.. هل سترقم لي الوشم الزناتي؟”
الكتابة بالحواس
تتجلى الكاتبة بالحواس في العديد من القرائن السردية من قبيل:
رصد الحركة، والرائحة عبر توظيف حاسة الشم
” يهتز جلنار الزمان، فيستجيب نوار اللوز والمشماش وأعواد الخزامى والنعناع، تتململ الروائح والكائنات وهي تحس بهسيس ستائر الفجر”
” قصعة كسكس تفوح منها رائحة السمن الحايل”، والإحالة على رائحة الكيف” يدخنون الكيف وغيره ولا يتكلمون”
“طاف الراعي علينا بكؤوس شاي منعنع رائحته فوارة”
“استفاقت من ضربة الغيب واستحمت، ثم بخرتها بتشكيلة من بخور منتقاة”
الكتابة بالحواس عبر توظيف حاسة السمع
وسنلاحظ أن حالات الانخطاف اللاإرادي التي سيعيشها موسى الزناتي، ظلت تؤثر عليه حتى بعد استعادة وعييه، كاللحظة التي استغرقته وتماهى فيها مع صورة الطفل الذي كانه منذ سنوات، وهو ما كشف عنه الحاج المدني الذي كان يتكلم معه عبر الهاتف” موسى يا بني أنت تكلمني بصوت طفل في العاشرة”.
وهذا الأمر سيتكرر بوجود شاهد آخر الكلبة سوسو التي ستشارك معه في عملية الانصات لنفس الصدى الذي كان يسمعه موسى، يقول السارد “ثم توقفنا معا نصيخ السمع لجلجلة بعيدة من طفل يشوي طائر أكريكر في الخلاء، ومن حين لآخر، يرمي بنظره نحو فخاخه المدفونة بعناية قرب البئر، كما يرمي ببصره بعييييييدا نحوي وهو هناااااك، فارتبك وأغضي.. وتفعل سوسو نفس الشيء وذيلها يتراقض”
” صفرت لسوسو التي كانت غائبة، فسمعت نباحا من بعيد”
” أسمعه ويسمعنني وكأني الزمن تخلى عن المسافة وصار نقطة وضميرا”
وتتجلى من خلال أصوات رشف الشاي
” لكن الراعي والعطار كانا يرتشفان بصوت مسموع مقزز”
” صعد فوق” البرميل الحديدي القصير” يضرب بقدميه ضربات متناوبة تركت ونينا متناغما وقويا”
تجليات الكتابة بالحواس عبر قراءة الغيب
حالات تكررت كثيرا، بنوع من الغرابة، كما حدث خلال تعقيب موسى على خيرا الكناوية” لقد رأيتك قبل أن تولدي، ورأيت هذه اللحظة، ولم أشأ العبث بالزمن أو خيانته. هل أنت نفس الشخص الذي كان أنا قلب من كان، وروح من سيكون”
وكذاك من خلال رؤيا، تعود لزمن ولى، لما كان يعلم مسعودة العراكة، وزيرا كيفية قراءة الطالع. وهي نفس الفترة التي ترجته فيها مسعودة العراكة، أن يعلمها علم الرمل”
من خلال السمع: وتجلى من خلال إدراج العديد من المقاطع الغنائية الشعبية التي شغلت حيزا مهما جدا داخل الفصول الأخيرة للرواية، إلى جانب دندنة الشيخ البرغوث بالكنبري في لحن حزين أوقف كل الأصوات الخرى”
وكذلك من خلال الإحالة على حركة الأصابع وتنقلها وما يشوبها من ارتعاش” ثم ترتعد أصابع وتتغير رنات الأوتار وكذا صوته وهو ينادي أمه بقلب جريح”
الكتابة بالحواس عبر توظيف المشاعر والأحاسيس
” شعرت ببلل دمعها يغسل قلبي وكلماتها تعجن كلماتي وتعيد خلقها”
كيف تتم الكتابة بالحواس؟
من خلال الصورة التي تكشف عن دلالة الخط الزناتي وتتبع تقديمها داخل الرواية، بحيث نستشف أن الخط الزناتي هو تخلي الزمن عن المسافة وصار نقطة وضميرا”
وكذلك هو منطق الخروج من ظلمة الكهوف والأنا الغامض إلى وضع الضمير السارح”
وكذلك حسب ما نقله العبد عاشور الطمطمي عن سيده الشيخ الزناتي
” ضرب الرمل.. شكل الطريق، والطريق مجرد أربع نقط.. نار وهواء، وماء، وتراب.. تقابلها ملايين العناصر والأبواب والهيئات والاشكال”
هل اعتمد موسى على ضرب الخط الزناتي لتوثيق زمن يوم الحصاد؟
بالعودة إلى الرواية، يخبرنا السارد أن موسى الزناتي خيال جذري يسرد الحكايات، “كان يسير على خطى الآخرين، ولما أنصت لصفاء ذهنه، واقتفى سيرة جده” الشيخ الزناتي” اقتنع أن ما تركه له، بركة خفية تحقق الاطمئنان والأمام الذي جعل نفسه مرايا مركبة” توثقت حياته بالأبراج والغيب. ألف كتاب الأبراج ومواليدها وعلاقتهم بأبراج السماء، جعلها رموزا للتعبير عن مشاغل الحياة. لكون الناس يكذبون بخصوص ماضيهم لملء ثقوبه، ويجهلون حاضرهم ويخشونه.. وأن حاضرهم صفحة بيضاء هم من سيكتبون عليها ما يريدون”
وهذه هي المقاربة المعتمدة في تأليف كتاب الأبراج، حول تفاصيل اليوم الواحد هي التي تم اعتمادها كذلك في تدوين تفاصيل يوم الحصاد لأن الأحداث تعاش، ثم تتبخر، ثم تعود. يقول السارد، “مثل يوم الحصاد الذي يوافق لحظة تواجده بالحقل الثلاثاء 14 يونيو يوم اكتمال البدر” يوم ملائم لمراقبة الحياة والكائنات والارتماء في كهفها.
ويمكن اعتبار هذا الطرح ميثاقا تعاقديا تم إبرامه مع متلقى الرواية كذلك.  كما يؤشر على توظيف حقائق التخييل الذاتي، وبذلك سيعمد الكاتب إلى تدوين تفاصيل يوم الحصاد، وحبك كلام ظل مواربا، وهو يسير بحذر واثق، على حافات المعلوم. فالتفاصيل داخل الرواية تعاش وتختبر، ثم تعود انطلاقا من حسابات تاريخ اللحظة، وزمنها، وتوافق تواجد بطلها بالحقل. ورغم ذلك يعمل السارد على تظليلنا عندما يصرح “ما كل شيء يرى بالعين المجردة. ما كل شيء يحكى، بل هناك لحظات تعاش بكل تفاصيلها بشكل محسوس.
فتأملات موسى الزناتي تجعله يتحرر، ويفكر في الزمن في خلوته، مقلدا في ذلك ما كان يفعله جده في خلوته العالية، بحثا عن حقيقة تمحو أثر العبد ورعونته”
غير أن سؤالا مشروعا، يفرض نفسه، أين تتجلى بركة الجد؟
يمكننا أن نستخلصها من خلال الوصايا التي تركها للحاج المدني” جدك أوصاني أن أقول لكك، لا تخبر أحدا بما تفكر فيه. لا تكلم أحدا لا تعرفه. لا تسمع إلى أحد لم تنظر في عينيه. أهمل من يهملك. لا تصدق من لا يصدقك. الكرامة قوة والحظ عزة والجهل مذلة”
وإذا أضفنا إليها ما تعلمه موسى الزناتي من مهنته” الانضباط والتقية، والاخفاء وعدم الكلام”، ومشكلة العقم التي طاردته.  سندرك أنها شكلت الدوافع الحقيقية لاهتمامه بالحيوانات ومعاملتها كأنها من صلبه” يراقبها، ويهتم بها دون أن يتدخل في طبيعتها وشكل عيشها” ويعتبرها جزء جوهريا من حياته وسلالته الباقية، وهي قواسم وضعها موسى لنفسه، واختارها بشكل إرادي، يقول الشارد “ليطمئن نفسه كان يتخيل الشيخ الزناتي وحياته في حيه للطيور، والحيوانات التي كانت تحيا معه في قمة الجبل.” فتقليده لسلوك جده هوما منحه السعادة، إلى جانب ما كان يجده بين صفحات مخطوط الرمل الذي كان يكثر الاعتكاف عليه. فظل يخفي ما يمتلكه من قدرات عن المحيطين به أوعن بعض الأشخاص الذين يشتغلون عنده بالضيعة، كالراعي الحيمر.
وحدث أن أجابه ذات يوم” أنا أحدس فقط بما أرى” ، وعندما اكتشف أمره، عندما سأله عن اسمه، وأجابه موسى الزناتي بعفوية اسمك “بوعزة” سيستدرك الأمر بسرعة، ” قلت لك لا تستعجل فتضرس، خذ نصيبك مما ترى، واترك الغيب ينضج لتنعم لاحقا”
من الإشارات التي يمكن إضافتها كذلك، تحديق الذات الطفولية في مرآة الزمن، يقول السارد:”خاطبت نفسي فوجدتني أخاطب بقاياي الضائعة، هل يمكن للزمن أن يتخلى عنا وعن خطيته، ويصبح نقطة دائرية، ترى كلها في اللحظة ذاتها؟”
“حولت نظري نحو الغابة، فرأيتني هناك في نفس الحقل، طفلا أسمر اللون في سن العاشرة”
“نظر الطفل الأسمر ذو النظرات القاسية، بدهشة مضاعفة إلى السماء، ثم نحوي في الفراغ الممتد الذي يلوي عنق الزمن، حيث أوجد الآن، ثم سيقول في نفسه، كيف يحدثني عما سيقع في مستقبل بعيد.. هل يخفي عني أنه يضرب الخط الزناتي”
” هممت بالحديث إليه.. لكن صوتي كان ذائبا وبعيدا بسنوات” أحس بي وهو هناااااك نظر نحوي بابتسامة ماكرة.. فقام مقتربا مني.. ملتفتا نحوهم ومتحدثا بنبرة استعارت لساني وهو جالس أمامهم يخط بسبابته خطوطا على التراب، بعدما سواه براحته”
النقــطة.
“النقطة دون أخرى هي عجمة، وتأتأة. والحرف جسد، والعدد روح في الجسد، وأن كل البحث الذي يجريه هو خط من نقطة واحدة. وأن الغاية هي رؤية العالم في نظرة واحدة، رؤية الزمان، في هيئاته وأحواله، في لحظة واحدة، وأن صفاء الروح من الشكل والهيئة والضمير”
الخط الزناتي وقراءة الطالع من خلال إشارات قوية بالرواية
الإشارة الأولى
وقد أخبرنا السارد بمحاولة موسى الذي اقترح على أصدقائه أن يقرأ لهم الطالع” وطلب لحظتها من أحدهم أن يتوجه قبل بزوغ الفجر إلى أهله. فانفجروا ضاحكين، فيما ظل هو متجهم.. فبلغه بالهاتف.. خبر وفاة والده”
الإشارة الثانية
عندما طلب من الحاج المدني أن يمنع ابنيه من السفر نحو اسبانيا مع أصدقائهم على متن السيارة.. بعدما التقط إشارات عن الحادثة وهو على متن الحافلة. وتأكد له ذلك حين تلقى مكالمة من الحاج المدني يخبره فيها أن أصدقاء ولديه الثلاثة لقوا نحبهم في حادثة سير في الطريق إلى مورسيا بالجنوب الاسباني”
الإشارة الثالثة
من خلال العودة إلى حكاية العبد القتيل عاشور الذي اخفى كنوز سيده الشيخ قبل مقتله، وهي قصة شغلت تفكير دويدو النمس، سيما بعد عثوره على الحجر الذي يتضمن كتابة تيفيناغ وجملة” هذا قلب موسى الزناتي العظيم”
الإشارة الرابعة
من خلال الحوار الذي دار بين سوسو، وموسى الزناتي حول المرآة، يقول السارد:
“أين أنت الآن يا موسى؟
أنا في الحل والترحال، في الظاهر والغابر
لماذا خرجت من المرآة بعدما ساعفك الحظ ودخلتها؟
ومن قال لك أني خرجت منها.. ألسنا معا بداخلها؟”
لو نحن خارجها الآن لقلت لك البقاء فيها زهد وهروب أشبه بالغموض في بحر وأنت بلباس صوفي في عز الصيف.
لو نحن خارج المرآة الآن يا موسى.. تعال نعود إليها قبل طلوع الشمس .. أحب المغامرة معك”
” في المرآة سأجدك صغيرا وألعب معك !!
وكيف ستكونين آنذاك يا سوسو.. هل تعرفين؟
ما تشتهي يا موسى.. فراشة بيضاء
ارحمي خيالي يا سوسو.. أحس برأسي يدوووووور”
 الكشف عن كرامات موسى الزناتي
وتجلت عندما بلغ موسى مقام البهجة، وأغمي على خيرة الكناوية اثناء الرقص، حملها كريشة بين يديه يقول السارد: كأني أحمل فراشة، فوضعتها ثم حملتها لأتأكد، فكان نفس الأمر الأول” ، وكذلك من خلال شهادة المسكيني “كانت معنا امرأة صديقة(زوجتي) تعرفك فروت لنا أنك صاحب الخط الزناتي” ” قلت في نفسي بانك أمسكت عن السفر من بعدي لأنك كنت على علم بما سيقع”
وتتجلى كذلك من خلال الإحساس بالعجز في ظل امتلاك القوة الخفية” يا ربي يا مولاي هل انتهى كل كلامي، وضاعت حروفي وسط خطوط الرمل؟ ليتني أجمع ما بنفسي في حرفين فقط”
التشكيل البصري
تميز الخط الذي كتبت به الرواية بكون جزء منه كان عاديا، والآخر مضغوطا. في حين تضمنت بعض الفقرات بعض الكلمات توحي للقارئ  بتمدد زمن الحركة أو الفعل، أو عن طريق تكرار حرف من الحروف إما للدلالة على إحساس معين، الدهشة، أو الإعجاب أو الحرقة أو الانتشاء، أو بعد المسافة..
اعتماد بعض الأصوات ضمن نسيج الجمل السردية:
صوت ألة الحصاد” يعلو صوت ألة الحصاد بنفس النوتة ويخفت كلما ابتعدت”
“نباح الكلاب ونهيق مفاجئ”
“هوهات هوهات”
 لقد تمكن الأديب شعيب حليفي من تقديم منظور خاص لواقع الحياة بمنطقة الشاوية عبر توظيف شخصيات مركبة نفسيا، تسحب من ورائها ماض مثقل بالهموم والنكبات، وتعيش على إيقاع الحلم بمستقبل زاهر، في ظل حاضر مأزوم جدا. داخل بيئة بدوية، لها ما يميزها من أعراف، وتقاليد. ولها إيقاع حياتها المرتبط أساسا بحيز جغرافي لا يزال يكتنز الكثير من الحكايات والقصص، والأساطير.
رواية خط الزناتي هي حلقة ضمن مشروع روائي كبير، (مساء الشوق، زمن الشاوية، رائحة الجنة، مجازفات البيزنطي، لا تنس ما تقول) لكاتب متميز ومجد، إلى جانب اشتغاله النقدي، ناهيك عن كتاباته الاجتماعية. وهو ما كشفت عن علو كعبه، وقدرته على تطويع آليات الكتابة، للتعبير عن أدق التفاصيل، وتقديمها بأكثر من لغة، وأكثر من صوت.
ذلك ما جعل منها رواية بوليفونية، كشفت عبر الايهام بضرب الرمل، وتخيل ما كان يخطه بطلها الزناتي، من قراءة الطالع، وقراءة الغيب. عن مصائر وحيوات متعددة، في فترة زمنية لم تتجاوز الأربع والعشرين ساعة. باستعمال أكثر من لسان، وأكثر من صوت، وأكثر من وسيلة للكتابة، كالحواس، والجسد عن طريق الرقص، والصوت عن طريق الغناء، والحركة عن طريق العزف، وبناء الصور المفارقة، وتوظيف أوعية للرؤيا، للكشف عن تطلعات شخصياتها، وعن أحلامها، مما حولها لمرايا عاكسة ندرك عبرها ما لا يدرك.
———
مداخلة شاركت بها في حفل توقيع رواية “خط الزناتي”، للأديب شعيب حليفي، الذي نظمته “مطابع ابن خلدون”، و”منشورات فاليا”، بشراكة مع المركز الثقافي الأشجار العالية ببني ملال يوم 26 يناير 2023
(°) روائي، قاص وناقد مغربي
error: