محكية قصيرة: مقهى زاوية الزقاق

436
  • يوسف عيادي
لم يكن المقهى في نظر كثير من الزبناء الذين يرتادونه بانتظام، فضاء للاسترخاء وحسب ، بل أصبح مع مرور الزمن؛ مكانا لعقد الصفقات، بشتى أصنافها وتبضع الأخبار الساخنة وحتى الباردة، والهروب أحيانا من نكد ربات البيوت ونزق نسلهن... لكل وقت زبائنه .. الصباحيون، الزواليون، المسائيون، الليليون، إضافة فئة “اللابدين” في  كل الأوقات.
 قد يتدرج الزبون في هرم سلطة المقهى، حتى يصل إلى رتبة “لابد”، سيما إذا كان يضع صحنا على كأس القهوة ، أو يترك ولاعة ومفاتيح صدئة على الطاولة؛ ثم يغادر فجأة إلى وجهة لا يعلمها أحد سواه .. وعندما يعود يطلب من النادل تسخين القهوة من جديد !
في أحد مساءات أيام الآحاد الرتيبة، وعلى فترات متزامنة، استمر تدفق الزبناء الذين ضاق بهم المكان . كانت طقوس متابعة مباراة الكلاسيكو أقرب إلى مشهد تدافع بشري داخل سوق للمواشي.. من أجل استيعاب الجموع الغفيرة، نحّى النادل الطاولات جانبا لفسح المكان للوافدين . في تلك اللحظة بات المقهى أقرب إلى مدرجات ملعب كرة القدم .
 تصاعد النعيق والصراخ على مدار  تسعين دقيقة.. شتائم وكلام بذيء وضحك هستري، قبل أن يعلن الحكم نهاية النزال الكروي الذي شق الزبائن إلى قسمين .. أنصار معاوية وعلي و بينهما برزخ أرباح صاحب المقهى .. وحده النادل مع هذه الفئة وتلك. يفرح مع المنتصر ويتحسر إلى جانب المنهزم كذلك. من الصعب أن تحدد ميول نادل ما، سيما إذا كان حريصا على عدم إغاضة زبنائه.
خلال وقت متأخر من الليل، بدأ المقهى يلفظ زبائنه تباعا، ولم يتبق سوى القليل من الأشخاص الذين ينصرفون متأخرين كعادتهم.. امتلأت منفضة “صويلح” بأعقاب السجائر التي كان يسحقها الواحدة تلو الأخرى غير آبه بنصيحة طبيبه.. عدّل “بوعبيد” جلسته؛ ثم أخرج رزمة أوراق يانصيب ليفحصها قبيل وضع العلامات في الخانات المحددة …حدجه النادل بارتياب، ثم خاطبه قائلا : “لا تنس أن تسدد لي ما بذمتك من دين ! “أشاح بوعبيد بوجهه، كمن يداري صفعة قوية… ثم رد قائلا : ” لا تقلق، هذه المرة سينصفني القدر لا محالة
فرغ المقهى من معظم زبائنه، وبدأ النادل المتعب يكنس أعقاب السجائر وآخر زبائنه. يكنس تارة، ثم يتوكأ على عصا المكنسة تارة أخرى، بينما ظل لفترة يحدّق إلى الزبائن المتبقين، خشية أن يتسلل أحدهم كالعادة دون أن يدفع ثمن السيجارة أو كوب القهوة..
و باحتدام أشهر جهاز التحكم عن بعد، ثم ضغط على زر وقف التشغيل، كإشارة صريحة لهؤلاء بوجوب الانصراف بشرف..قبل أن يسحب الكراسي من تحتهم. بدا بعضهم وهم يطأطئون رؤوسهم، كما لو كانوا غير معنيين بتلك الإشارة.. لكنهم بالكاد انتبهوا إلى توقف التلفاز .. تبادلوا النظرات، ثم ران صمت جنائزي مهيب، سرعان ما خرقه صرير الكراسي المسحوبة برعونة..
انصرفت “الصفية” محضّرة الشاي متسلّلة بحيائها المعهود بين الكراسي، وهي تتأبط خبزة ملفوفة في منديل وقارورة ماء بارد.. وبينما همت بعبور الشارع، مسحتها نظرات حارس السيارات الجالس في الزاوية المقابلة .. “عرّوب” يمسح المارة بميكانيكية لافتة؛ ثم يدسهم في طروده البريدية التي يلقي بها إلى مفتش الشرطة كل نهاية أسبوع.. أثناء عودتها إلى البيت لم تسلم “الصفية” ذات العقد الخامس من تحرشات كل من بائع النقانق والدكاني اللذين مافتئا  يترصدانها منذ أمد طويل.
 لم يستسغ النادل استماتة هؤلاء في البقاء حتى الرمق الأخير، فقام بقطع صبيب الإنترنت… آنذاك توقفت شاشات هواتفهم عن بث محتوياتها الرقمية.. تبادلوا النظرات باندهاش، ثم شرعوا في إخلاء مواقعهم الحصينة. وفي حركة قهرية غريبة، اصطف آخر أربعة زبائن أمام باب المرحاض.. إذ يبدو أنهم شعروا فجأة باحتقان متاناتهم، قبيل انصرافهم على مضض
error: