لا أجد حرجاً إن فضحتني طفولتي

257

إدريس الواغيش (°)

أنهيت المرحلة الأولى من العمر سالما، والحمد لله. واثق من نفسي، وعندي طموح كبير في الاستمرار، ورغبة جامحة في بداية مرحلة أخرى جديدة؛ أهم وأحلى. لم تعد تهمني، بعد اليوم، عميات الحساب، من جمع وطرح وضرب، ولا دوران عقارب الساعة. ولن أسأل، كما يفعل الكثير من الحيارى، ماذا كسبت لغدي، وقد تجاوزت الستين من عمري؟ ولا ماذا خسرت من متاع الدنيا؟ لأنني لم أراهن يوما على الربح، بقدر ما كانت راهاناتي دائما على الخسارة.
كنت أعرف، أنني انحزت عن غير قصد إلى صف الخاسرين، حين كتبت أول قصة قصيرة، وطبعت من مالي الخاص مجاميعي القصصية. وأصبحت من جيش المدمنين على الخسارات، منذ أن كتبت أولى القصائد، إلى أن طبعت ديواني الثالث على حساب نفقة الأسرة. ثم توالت الخسارات بعد ذلك، وأنا راضي بكل خساراتي.
لم أحب الربح، وقد سبق لي أن مارست مهنة التجارة، لأن الربح يعلم الحيلة والشطارة، والشطارة تعلم الخبث، والخبث يعلم التفنن في الاحتيال على حقوق الآخرين. وأنا من طبعي وطبيعتي ميال إلى العدل، ولا أحب الظلم والظالمين. الخسارات على عكس الربح علمتني التحدي، وأنا واحد من عشاق التحدي، وهو الذي طور وعيي بالحياة وأنساني شقاوة طفولتي، هي التي دأبت عليها منذ أن كنت صغيرا في كتاب القرية، وبعد أن التحقت بمدرستها.
ولن أسأل ثانية، بوعي أو بدونه، عن ماذا تحقق أو لم يتحقق من أحلامي الشاردة. لم يعد يهمني بعد اليوم، إن كانت السنون التي مرت، قد ظلمتني أو نصفتني، وهل أسرعت قليلا أو تباطأت، لأنني غير معني اليوم بسرعتها، ولست قلقا من تباطؤ سيرها. لها أن تمشي كيف تشاء، ولي أن أحياها كيف أشاء. ولم يعد يعنيني، بعد هذه الرحلة الطويلة، إن كنت واضحا أو غامضا في علاقتي مع الآخرين، ولا بماذا يحكمون علي، وبأي عيون أو نظارات يرونني. ليس من حق أي أحد أن يأتي متأخرا، ويسألني: ماذا فعلت بسنوات عمرك؟ وماذا حققت فيها؟.
أعرف أنه لم يكن ممكنا تحقيق أكثر مما كان، ولن أتحجج بالظروف والإمكانيات، فلي ماكان لي. ولكن ما قد يشفع لي قليلا، هو أن عدة مسارات اعترضت طريقي عنوة، وبعضها فرض علي قسوة، ولم أختر أغلبها طواعية. المسارات في حياتنا عموما كبشر، لا نختارها عادة كيف نشاء.
أصبح العالم باردا في زمن القطب الواحد، ولكن من حسنات هذا القطب أن عرى بعض الوجوه والأقنعة، وكشف عن زيف الكثير من المواقف، وأظهر معادن الرجال على حقيقتها. سنوات من العمر مرت، وأخرى تنتظر على الطريق. لن أستعجل الأمور، وأتحدث من الآن عن الوحدة والشيخوخة والعكاز، وأسبح في فلكوت سماوات الخيال، ولن أتكلم عن الضجر واليأس. لا زال أمامي متسع من العمر للفرح، أصحو فيه باكرا قبل شروق الشمس، أحمي الزهور من طيش العصافير الصغيرة، والياسمين من تهور بعض الفراشات.
لا زلت أحتفظ في داخلي بعقلية الطفل والمراهق، ولا أجد حرجا إن فضحتني طفولتي، وأنا أستمتع بأكل قطعة من الشوكولاتة على الرصيف في الشارع. لا يهمني تعجب المارة، ولا نظرات عيونهم إلي، ولا همس الحمقى لبعضهم بأن الحلويات والشكولاتة لا تناسب عمرا مثل عمري. أعرف أن تعجبهم لن يغير من إصراري شيئا، ولا فصلا من القوانين التنظيمية في هذا الكون..!!

(°) قاص مغربي

 

error: