بَدْرُ شَاكِرُ اَلسَّيَّابُ شِعْرِيَةُ الْمُخَالَفَةِ

350
  • صالح لبريني (°)
مِهَادٌ أَوَّلِيٌّ:
لاجدال في كون القصيدة العربية اجترحت لنفسها، عبْر مراحل عمرها الإبداعي ومازالت، أشكالا وأساليب في القول والتعبير منذ الجاهلية إلى اليوم، بها وفيها يصوغ الشعراء رؤاهم للعالَم، ويعبّرون عن هواجسهم وتوترهم ورغبتهم في معانقة البهي والجميل، ولعل ماهو قائم في المنجز الشعري العربي يبرز زعمنا هذا، لتأتي قصيدة التفعيلة، التي اتخذت منحى آخر يتمثل في تكسير بنية القصيدة العمودية بابتداع نظام السطر الشعري، ليكون القالب الذي سيحتوي هذه الرؤى والهواجس والتصورات..
ومن رواد الشعر التفعيلي نشير إلى الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي يعدّ من الأوائل الذين حطموا عمود الشعر، وذلك بعد تجربة الكتابة العمودية، خالقا منجزا شعريا يتميّز بالخلْق والإبداع، والجنوع إلى شعرية ترتضي الخروج عن الأعراف والتقاليد الشعرية المتداولة، صائغا وجهات نظره تجاه الكتابة الإبداعية، مستثمرا معرفته الشعرية والثقافية لنسج نص مختلف.
(1)  مَتَاهَاتُ الْقِرَاءَةِ :
قراءة السّياب رحلة عبْر مفاوز تخييلية، وتجربة منحوتة بإزميل التعدّد المعرفي والاختلاف من حيثُ الينابيع الشعرية، بل قُدّتْ من مكابدات ذاتية و رؤية شعرية تُراهن على التّحويل والمغايرة، وعلى التّحرّر من سُلطة القوالب المكرورة. هذه القراءة / الرحلة تستدعي زاد المحبة كمقوم من مقومات تجسير العلاقة مع حركة الحداثة الشعرية، وفتْح حوار مُتأنٍّ لِسَبْر المغالق ومواجهة متاهاتها التي تظلّ عصيّة على المراودة، لأن المحبة طريق المعرفة، و عن طريق المعرفة الملمّة بعناصر العملية الإبداعية، يمكن أن نَفْلَحَ في اقتناص الجواهر الجمالية والفنية المحجوبة والمتوارية في طيّات النّصّ الشعريّ، وكشفْها في الذات الّتي تعتبرُ خزان الذاكرة، وتنبثق من الوعي واللاوعي اللذين يمثّلان مرجعية أساساً في الكتابة الإبداعية، إنّها (الذات) مَجْمَعُ الخبرات والتّجارب والرّؤى ، فبدون الذاكرة والتاريخ والوعي بالوجود والموجود، والانخراط في صيرورة الكائن والواقع؛ لا يمكن أن تقوم للإبداع أيّة قائمة، أو أيّ جديد بإمكانه أن يفْتح العديد من الكُوّات لارتياد الآفاق البعيدة.
فكلّ ذات مبدعة تحمل، في كيانها وذاكرتها، موروثا يمنحها هُويّة خاصّة بها، ويكون بمثابة المخصّب للتجربة الإبداعية، والمحفّز على المغامرة الّتي تقود إلى التمرّد والابتكار والإتيان بإبداع يشعّ بضوء الجدّة والاختلاف، ولا غرابة في ذلك، فالحديث عن قراءة التّجربة الشّعرية للسّيّاب يُفْضي إلى الدّخول إلى عوالم الشّعر النّابض بحياة الذّات وعذاباتها، وبِتصوّرات في الإبداع تتميّز بالعُمق والفرادة في التصوير والتشكيل اللغوي، فَشعْر السّيّاب لايقف عند حدود اللغة، بل يختار الانزياح الدّلالي سبيلاً لِصُنْع أسطورة شعريته، التي تتولّد من رحم المعاناة الذاتية، وسبْكها في سبائك أسلوبية تحوّلها من دائرتها الضيقة المتعلّقة بالذّات لتغدو متعلقة بدائرة مفتوحة على الهمّ الجماعي، مادامت آثار الواقع تنسُجُ عوالم التّجربة الشّعرية.
(2)  شِعْرٍيَةُ المُخَالَفَةِ مِنْ مَرْحَلَةِ الصَّوْتِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْأَثَرِ:
من هذا المنطلق سنسعى إلى الوقوف عند قصيدة أنشودة المطرالّتي تُشكّل النّصّ المفارق في تجربة الشّاعر العراقي بدر شاكر السّياب، و المنعطف الحاسم لتشكيل رؤية الشاعر حوْل الذّات والعالَم، و للخروج من مرحلة الصّوت إلى مرحلة الأثَر، فالأولى متعلّقة بهيْمنة البُعد السّياسي والإبدالات التي يفرضها السّياق العام من انقلابات، ومشاريع قومية وآمال في غَدِ الحرية وبناء الدّولة، لكنّ الواقع موسوم بالتّخلف والارتكاسات، لتأتي المرحلة الثانية لِتُحْدِثَ القطيعة مع المرجع/ الإحالة، وتؤسّس لأثرها الشّعري بعيداً عن صدى الإيديولوجيا. هكذا يمكن اعتبار الأنشودة أفقا شعريا ينسلخ من جلبة الخارج بالذهاب عميقا إلى الإصغاء للذات ورجّاتها الباطنية.
هذه الذّات المشاكسة والمشاغبة في ابتداع تجربة شعرية؛ تَسْبِرُ توتّراتها وصراعها مع ذاتها، والواقع الذي يزداد نكبات وانتكاسات، من هنا كان قدر الشّاعر أن يحمل صخرة القلق، وخيبة الأحلام واغترابه، ليخطّ سيرته الذاتية بمعرفة شعرية تنهل من الموروث، وتُصقَل بمرجعية ثقافية ذات روافد مختلفة، ممّا أسْهم في تثْوير تصوّراته في الكتابة والإبداع، و بلورة رؤية لا تقف عند حدود المرئي، وإنّما تمتد إلى البحث عن المجهول.
هكذا تمكّن السّياب من خلْق النّص الشّعري المخاتِل، الذي يجعل القارئ في التحام ملتبس مع خطابه الشّعري المختلف والمجدّد، وفي هذا يكمن جوهر تجربته الشّعرية، إذ لم يأت إلى قصيدة السّطر الشعري مجرّدا من ثقافة شعرية تقليدية، وإنّما وَلَجَها بمعرفة مُلمّة بهذه القصيدة، ومُستوعبا جمالياتها، مع التّأكيد على تشبّعه بالثقافة الإنجليزية، التي لعبت دورا مهما في تشكيل وعيه الشعري، فهذه المرجعية الشّعرية كانت حافزا على ابتداع نصّ شعري يُلبّي نداء السّياق التّاريخي والاجتماعي والسّياسي والثّقافي، وهو سياق مشحون بارتجاجات قوّضت الكائن وحوّلت المحلوم به في حكم اللاتحقّق، فكان الانعطاف صوْب القصيدة المتحررة من أغلال نظام الشطرين الصارم..
وقد تمّ تقديم تجربته، في هذا الإطار، مجدّدا ومتخطيّا حواجز التقليد، ليكشف عوالم شعرية تحتفي بالعوالم في تجلياتها الذاتية والموضوعية، غير أنّ الجوهري في كل هذا، يتمثل في قدرة السيّاب على تحويل ما هو ذاتي إلى موضوع تذولُ فيه الذاتية وتتماهى مع الإحالة الواقعية، ليس كانعكاس للواقع، وإنّما تشكيل له في ظل التّجربة الوجودية المنبثقة من سؤال الشعر وإبدالاته، ومن الكتابة الإبداعية المتسائلة .يقول : ( عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ/ وترقص الأضواء … كالأقمار في نهَرْ/ يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر/كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ …/ وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ/ كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،/ دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،/ والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛/ فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء/ ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء/كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر… ( !فالشاعر السياب ينسج باللغة والمتخيّل بأسلوبه الخاص للتعبير عن رؤيته، إذ استمد شعريته من التوظيف العميق لأسطورة عشتار إلهة الحب و الجمال والحروب، ومن تمّ فهي تحْبل بالمتناقضات والمفارقات، وبالتالي فواقع العراق شبيه هذه الأسطورة على المستوى الدلالي، وكذا سيرة الشاعر التي لا تسلم من هذه السّمات المتقلبة والمتضاربة، فهذا التّشكيل الشّعري عمّق من تيئير المعنى الشّعري، ومن انفتاح النّص على دلالات مُشْرَعَة على اللانهائي.
يقول كولريدج إنّ ” اللّغة وُضِعَتْ في إطار لا لتُعَبّر عن الشيء وحده، بل أيضا لتعبّر عن الشّخصية والحالة المزاجية ونوايا الشّخص الّذي يمثّلها. إنّ اللّغة قد خُلِقت كي تُنطَقَ، وهي تُعبّر عن الحقيقة الداخلية، وكي تفرض هذا على العالَم من خلْفها عبر الخيال، وبهذه الطريقة تتعالَق اللغة والواقع تعالقا وثيقا” ،وهذا ينطبق على السيّاب الذي استلهم لغة شعرية جديرة بهذا الواقع المتحوّل، و المنسوجة بخيال يلتقط الواقع ويَعْجِنُه برؤاه وبالماء الشّعري، إلى أن يتماهى الخيال باللغة مشكّلين معاً واقعا متخيّلا معبّرا عن الذات والواقع، فالاشتغال بهذين المقومين القليل من الشعراء من يمتلك ناصيته، ومنهم السيّاب الشاعر الذي أبدَع نشيد الماء على أوتار الوجدان، والمجتمع من زاوية المنغمس في تبدّلاته والمنصت لتوجّعاته..
ولعلّ تكراره للازمة الشّعرية ( ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع..) تجسيدٌ للتواشج القائم بين الذات والواقع. وكشْفٌ عن البؤرة المؤطرة لشعريته المتمثّلة في الحضور والغياب / الحياة والموت، وهي ثنائية تثوي في طيّاتها صراع الإنسان ومقاومته للموت، فانتفاء هذا التوتر حكم على غياب الكينونة، فرمزية الماء تُحيل على الخصب والحياة هذا على مستوى البنيةالسطحية الدالة، لكن على مستوى البنية العميقة تحمل دلالة الموت، مما يخيّب أفق انتظار القارئ، ويفحمه في عالم شعري؛ قوامه نداء مبحوح ومخنوق، كتعبير دال على مدلول المحنة الواقعية والوجودية. يقول السيّاب: ( أصيح بالخليج: “يا خليج…/ يا واهب اللؤلؤ، والمحار والردى ! / فيرجع الصدى/ كأنّه النشيج:/” يا خليج / يا واهب المحار والردى..) ، فالرؤية ذات منحى درامي حيث الموت يعرّي جوهر الحياة الفارغة من اللؤلؤ والمحار ، والمترعة بالرّدى/ الفناء ليبقى النشيج علامة تحيل على هوية الذّات المستلبة في وجودها، ويظلّ المطر في حكم المأمول.
(3)  خُصُوبَةُ الرَّمْزِ الْأُسْطُورِيِّ لِلْخِطَابِ الشِّعْرِيِّ:
والمتأمّل، في المنجز الشعري للشاعر ، يخلُص إلى أنّ السّيّاب اعتمد في صياغة رؤيته للذات والواقع على الرمز الأسطوري كآلية من آليات الاحتجاج على هذا الواقع، فالوعي بأهمية الرمز الأسطوري يتجلّى في تخصيبه بحمولات جديدة،وهذا ما يبدو في تحويل آلهة الحب والخصب عشتار بحملها معنى سلبيا في القصيدة يقول: ( عشتار، عطشى ليس في جبينها زهر/ وفي يديها سلّة ثمارها حجر/ ترجم كل زوجة به. وللنخيل/ في شطّها عويل…) ، فالسيّاب قَلَبَ صورة عشتار الإيجابية إلى صورة مُحمّلة بدلالات العطش والمحل والحجر والعويل ليتمّ تكثيف هذه الدلالات في دلالة الموت، وهذا يكشف حقيقة بلاد الرافدين التي تئن تحت جبروت الجدب والجمود، وبالتالي لا أفق يشير إلى بزوغ شمس أخرى، شمس التغيير.
فهذا التحويل زاد من شحن النص الشعري بدرامية تعبّر عن واقع الحال بالعراق. ونعتقد أن السياب يمثّل تجربة تنهل من عذابات الذّات، وتصقلها بمبرد المتخيل الثقافي والمعرفي والحياتي، ليمنحنا نصا مفتوحا على أبعاد دلالية، تعطي للتجربة جدارة الديمومة في الزمان والمكان، وتؤسّس لخطاب شعري مفتوح على قراءات مختلفة. فالشاعر ينحت تجربته، بوساطة فتح حوار مع الرموز والأساطير والشخصيات التاريخية وعناصر الوجود، مستلهما ذلك بطريقة خاصة به، الأمر الذي دَمَغَ مظانّه الشعرية بهذا الصنيع الإبداعي المتميّز، إذ أَسْطَرَ سيرته الذاتية ومواجعه وآلامه ومعاناته باستثمار أساطير الذاكرة الإنسانية كعشتار وتموز واليعازر وسيزيف وغيرها، وتحويل هذه الحياة المفعمة بالأوجاع والمحن إلى صور ذات دلالات مؤسطِرة لكينونة تعرضت لشتى أصناف العذابات.
هذه الكينونة المؤثّثة العالم الشعري بتصوّرات تعكس صورة تموز أو عشتار وتضخها بمعاني الموت في مقابل الحياة، وبدلالة الغياب في مقابل الحضور، وفي هذين التقابلين تتمثل عبقرية السيّاب الإبداعية يقول: ( رحى من لظى مرّ دربي عليها/ وكرْم عساليجه العاقرات شرايين تموز عبر المدينة…) فإذا كان تموز إله الخصب والحياة يصير إله الفناء والغياب؛ ليعطي للتجربة الشعرية المتماهية مع التجربة الجماعية طاقة تتجدّد فيها دماء القصيدة، ومن تمّ فنداء الذات للمكان/ جيكور وبويب ودجلة والفرات كذاكرة ذاتية للطفولة،ما هو إلا تجدّد للولادة مرّة أخرى، ذلك أنّ تموز يصبح رمزا للحضور وتمجيدا للحياة يقول: ( بالعضل المفتول والسواعد المجدولة / “هرقل” صارع الردى في غارة المحجّب/ بظلمة من طحلب/ وقام “تمّوز” بجرح فاغر مخضّب/ يصكّ (موت) صكّة، محجّبا ذيوله/ وخطوهُ الجليدَ بالشقيق والزنابق).
(°) ناقد وشاعر مغربي
error: