قراءة في تشكيل العلاقات الإنسانية المتحولة في رواية “خ ي ط ا ل ر و ح” لإسماعيل البويحياوي

369
  • عبد الرحيم التدلاوي (°)
الألوان، والروائح، والأطعمة والأشربة، والحجاج، والرحلة) إن تحليل الألوان، الأطعمة والأشربة، والعلاقات الإنسانية والحجاج، والرحلة، يقودنا إلى فهم التباين بين حياة البادية والمدينة، وكيفية تشكيل هذه العناصر لوعي السارد ورؤيته للعالم، هذه العناصر لا تُظهر فقط الفروقات الثقافية بين البيئتين، بل تعكس أيضاً الصراع الداخلي للسارد بين انتمائه إلى جذوره البدوية ومحاولته التكيف مع تعقيدات الحياة المدنية).
. 1. الألوان:  تستخدم الألوان في رواية ” خ ي ط ا ل ر و ح” كتقنية أو كوسيلة سردية تعبيرية لها وظائف متعددة. أولا: وظيفة متعلقة بصنعة الكتابة الروائية. تعكس، أولا وقبل كل شيء، حرفية الكاتب ووعيه بآليات كتابة الرواية، وبأساليب السرد، ولغته الحكائيّة، علاوة على لغة شخصياته وبيئتها.
ثانيا: وظيفة رمزية تسلط الضوء على الأجواء، والحالات النفسية، والاجتماعية. وهي مستمدة من ثقافة المجتمع المغربي بصفة عامة، والمجتمع المحلي الدكالي بصفة خاصة. حيث يشير اللون الأسود (والليل) لأساليب الاستعمار، وحيله، ولفترته السوداء، وما وراءها من خطط استعمارية وصراع، وقهر، وظلم. ويرمز الأبيض للنضال ولفجر الاستقلال.” وعما قريب ينسل الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر الذي تتشوف إليه الأمَّة”، ص 60. ويعكس المعتقدات الدينية والثقافية للشخصيات. كما نجد اللون الأبيض يشير للصفاء والمنامات “كان يمتطي جوادا أبيض بياض الثلج الطاهر النقيّ” ص 27. كمعتقدات ضاربة أطنابها في هذا الوسط البدوي. وهنا نسجل احترام الكاتب لثقافة الشخوص، ونظرتهم للعالم دون إقحام وعيه الشخصي.
. ثالثا: وظيفة تعكس استعمال الألوان في انسجام تام مع خصائص الحكي البدوي في وجهه المرتبط بما هو حسي يظل عالقا في العين، والروح، والوجدان. والألوان هنا شملت المحيط البدوي ككل: الحيوان، والإنسان، واللباس وغيرها. الحمارة شهباء “ركبت هي حمارتي الشَّهْباء” ص 30. ولون الخيط الصوفي الذي تربط فيه الأم المفتاح “خيط الصّوف الأبيضُ الذي تربط فيه المفتاح الخاص بصندوق تحتفظ به في دولابها الشّخصي”، ص82. ولون الجلباب “كنا سيد الفقير، بجلبابه الأسود المائل إلى الحمرة، وأنا بجلبابي المخطط بالأبيض والأسود نَعُبُّ الشاي عبّا” ص 30. والشريط اللاصق على واجهة شاحنة ولد بنيني” عبارة كتبت باللون الأبيض على شريط أسود لاصق” ص 65. وهذه الوظيفة إذن ترتبط بالثقافة المحلية المهووسة بالتفاصيل، والجزئيات، والألوان، والأشكال، والأحجام. وجاءت على حد قول السارد” لإشباع العين والفؤاد” الصفحة نفسها.
2. الأطعمة والأشربة ودلالاتها الثقافية: أما الأطعمة والأشربة، في الرواية، فهي ليست مجرد تفاصيل يومية، بل هي رموز تعكس الفروقات بين بساطة الحياة في البادية وتعقيدات المدينة. ففي البادية، يعد الشاي رمزاً للكرم والضيافة، حيث يكون الشاي مصحوبا بالخبز والفواكه الجافة وحلوى الفنيد “التسويقة” ص 30 و24 جزءً لا يتجزأ من طقوس استقبال الضيوف في انتظار الوجبة الأكبر والأهم. لن نطيل في هذا الجانب ولكننا نؤكد على أنها من قيم التضامن والتكافل التي تشكل أساس العلاقات الإنسانية في البادية وفي الحياة بصفة عامة. هذه التفاصيل تعيدنا إلى فكرة البادية كرحم ثقافي امتح منها الكاتب، وقدم لنا مجموعة من القيم الأصيلة التي تشكل وعي السارد وهويته.
. 3. الأصوات والروائح: هي من العناصر التي ترتبط بالبادية. ويشغلها السارد بفنية كبيرة للتعبير عن انغراسه في تربتها. ومن الأمثلة المعبرة عن هذه العناصر ما نجده في الصفحة 32،”في اليوم الموالي استيقظت على جلبة في زريبة البهام. ثغاء نعجة حاد جدا، وصراخ ابن خالي، ونباح الكلب. وبعدها اختلطت الأصوات وضجت: صياح الدجاج، صهيل الخيل، وخوار البقر…”، وهذا المشهد الروائي الثري غني عن التحليل والتفسير لأنه يغمسنا في المكان واللحظة وحركيتها وأجوائها العامة، ويجعلنا جزءً لا يتجزأ منها.
حين تسلط الرواية الضوء على العلاقات الإنسانية في البادية والمدينة، فهي تبرز تباينا واضحا في طبيعة التفاعل الاجتماعي وقيمه. ففي البادية، تبنى العلاقات على التضامن والانتماء القبلي، حيث تظل قيم الكرم والشجاعة والترابط مكونا أساسيا من الحياة اليومية. هذه العلاقات تعكس انسجام الفرد مع مجتمعه، كما يتجلى في مشاهد التقاء السارد مع شخصيات تعكس هذه القيم التقليدية. أما في المدينة، فتظهر العلاقات أكثر تعقيدا. وغالبا ما يطغى عليها الحذر، ورفض الآخر المختلف، وانغلاق الفرد على ذاته، مما يعمق انفصال الفرد عن جذوره الثقافية. وهو ما يفسر تعبير السارد عن حنينه إلى دفء العلاقات البدوية التي تشكل جزءً من هويته، في مقابل إدانته لبرودة المدينة وتعقيداتها.
وتلعب الروائح والأشربة والأطعمة دورا محوريا في توطيد العلاقات بين أبناء البادية، حيث تعكس هذه العناصر الثقافة المحلية والتقاليد الاجتماعية التي تعزز الروابط بين الأفراد. رائحة البادية، مثل رائحة الحقول والأعشاب والتراب، تعيد للأفراد ذكريات الطفولة والأرض الأم، مما يعزز الشعور بالانتماء والارتباط بالمكان. أما رائحة الأطعمة التقليدية، مثل الشواء والخبز الطازج، فتجمع الناس حول المائدة، وتخلق جوا من الألفة والترابط. ولا يقتصر الأمر على الروائح، فالأشربة، مثل الشاي والحليب واللبن، تعتبر علامات ثقافية على الترحيب والضيافة، التي تقدم في المناسبات الاجتماعية لتوطيد العلاقات وتجديد الروابط.
إن الأطعمة التقليدية، كالكسكس والخبز البلدي واللحوم المشوية، ليست مجرد وجبات، بل هي وسائل لتعزيز التضامن الاجتماعي. فالوجبات الجماعية في البادية تكون فرصة للتواصل وتبادل الأخبار والمشاعر، مما يقوي العلاقات ويخلق جوًا من التآلف. وفي المناسبات الاجتماعية، مثل الأعراس والزيارات العائلية، يتم تقديم الأطعمة والأشربة بوفرة، مما يعكس قيم الكرم والاحترام التي تربط الأفراد ببعضهم البعض. هذه العناصر-الروائح، الأطعمة، والأشربة- لا تعكس فقط الثقافة المحلية، بل تحمل أيضًا ذكريات عاطفية قوية، خاصة تلك المرتبطة بالطفولة والأسرة. عندما يتشارك الأفراد هذه الذكريات، فإن ذلك يعزز الروابط العاطفية بينهم ويجعل العلاقات أكثر متانة. وبالتالي، فإن هذه العناصر ليست مجرد تفاصيل مادية، بل هي وسائل قوية لتوطيد العلاقات الاجتماعية وتعزيز الروابط بين أبناء البادية.
وبناء عليه، فإن الرواية توظف هذه العناصر- الألوان، الأطعمة، الأشربة، والعلاقات الإنسانية- ليس فقط لإبراز التباين بين البادية والمدينة، بل أيضًا لتكشف عن كيفية تشكيل هذه البيئات لوعي السارد. فالبادية تظل هي الأصل الذي يستقي منه السارد قيمه وأفكاره، بينما تمثل المدينة الفضاء الجاحد الذي يهدد بفقدان الهوية. هذه الرحلة بين الماضي والحاضر، بين الثابت والمتحول، هي ما يعطي الرواية عمقها الإنساني والثقافي، حيث تُظهر الصراع الداخلي للسارد بين الحفاظ على هويته البدوية والتكيف مع واقع الحياة الحديثة.
. 4. المكون الحجاجي في الرواية: من العناصر المهمة في العمل الروائي حضور الحوار الذي تتخلله اللهجة المحلية فضلا عن المحاكمة وما تستدعيه من مرافعات. وهو ما يقودنا إلى المكون الحجاجي. يبرز هذا المكون من خلال الحوارات الجدلية التي تعكس الصراع بين القديم والجديد، وبين القيم التقليدية والبنية الحديثة للمجتمع. يستخدم السارد هذه الحوارات لتقديم حجج تدعم وجهات نظر مختلفة حول الحياة في البادية والمدينة، مما يعكس قدرته على التفكير النقدي تجاه الموروث الثقافي والاجتماعي. في الصفحة 34، يناقش السارد مفهوم الكرم البدوي الذي يُعتبر حجر الأساس للعلاقات الاجتماعية، مما يعكس النقاش الدائر حول رمزية القيم البدوية والتحديات التي تواجهها عند نقلها إلى السياق الحضري.
كما يظهر الجانب الحجاجي في الصراع حول الهوية الثقافية، حيث يعبر الفقيه وصاحب “لحجابات عن ذلك بقوله: ندمت على الهجرة. أعيش القهر، والكذب في المدينة. ص 69، هذا القول/الشهادة يبرز التناقض بين الانفتاح الذي توفره المدينة والحنين إلى البساطة والتماسك الاجتماعي في البادية، مما يعكس الصراع بين الهويتين البدوية والمدنية. ويمكن اعتبار الحوار الذي دار بين الأم والأب حوارًا حجاجيا، حيث تمكنت الأم من إقناع الأب بضرورة تسجيل ابنهما في المدرسة بدلًا من الاكتفاء بالكُتَّاب، حتى لا يكون في مستقبله مجرد فقيه يتلو القرآن في المقابر. كانت الأم ترى أن التعليم النظامي هو الطريق الصحيح ليكون للابن شأنٌ في الحياة. وقد تحقق ذلك بالفعل، حيث صار الابن مبدعًا يعيد بناء عالمه بطريقة إبداعية روائية تعيد الاعتبار للبادية بشكل عام، وللأم بشكل خاص.
تلك الأم التي كان لها الفضل في إخراج ابنها من ظلمات التبعية والتكرار إلى فضاء الحرية المتجسدة في الكتابة الإبداعية، التي تمتلك سلطة الهدم وإعادة البناء. وقد جرى هذا الحوار في الصفحة 19، حيث تقول الأم: “بفضلي التحقت بالمدرسة. وقفت على رأسه، وقلت سجله في المدرسة هذا اليوم. قال يكفيه أن يحفظ القرآن الكريم.” وردت الأم على الأب بسؤال حاسم: “قالت هل تريده أن يكون فقيها مثل الفقهاء الذين يرتُلون القرآن في المقبرة يوم الجمعة؟لقد أدركت الأم بحدسها الثاقب دور التعليم كوسيلة لتحرير العقول، وليس كأداة لتكريس القوالب النمطية، كما يحدث في الكتاتيب التي تركز على حفظ القرآن دون فهم أو وعي. وهذا ما جعلها تصر على تعليم ابنها في المدارس، حيث يمكن أن يكتسب معرفة أوسع وأكثر تحررًا.
وقد وظف الحوار هنا أسلوب الحجاج لإظهار التعقيد في العلاقة بين التعليم والتحرر، مشيرًا إلى أن امتلاك المعرفة ليس كافيًا إن لم يُستخدم بشكل واعٍ. وهذا الجانب يتجلى بوضوح في الصفحة 77، حيث يقول النص: “عملوا معنا. اكتشفوا أن المحاسب يسجل في بطاقة العمل ثمان ساعات، بينما العمال يشتغلون أكثر من ذلك. اتهموه بالتزوير. احتجوافبفضل تعلم الشباب وفطنتهم، تمكنوا من كشف الخداع وتوعية العمال، الذين قاموا بإضراب هدد مصالح الباطرون. ومع ذلك، تمكن هذا الأخير من فض الإضراب بمساعدة الشرطة والمندسين، مما أدى إلى انهزام العمال وفوز صاحب العمل.
وهكذا، يظهر أن التعليم يمكن أن يكون أداة للوعي والتحرر إذا حمله الفضلاء، أما إذا حمله المستغلون، فإنه يتحول إلى أداة لتزيين الوعي وتضليل الناس. من خلال الحوارات الجدلية طي الرواية، تبرز التناقضات الداخلية والخارجية التي تعيشها الشخصيات، مما يعكس تعقيد الهوية الثقافية والصراع بين الماضي والحاضر. وقد استغل السارد هذا السياق الحجاجي لتمرير لغة نقدية مباشرة وغير مباشرة لنقد المواقف والقيم الاجتماعية، مما يدعو القارئ إلى الانخراط في التفكير حول هذه القضايا الجدلية، مما يجعل النص أكثر تفاعلية وثراء وإعادة للنظر في العديد من القضايا. وهو ما يطرح علينا قضية الانتقالات والتحولات داخل هذه الرواية.
. 5. تيمة التحول: تعتبر تيمة التحول في رواية “خيط الروح” لإسماعيل البويحياوي محورًا رئيسيًا يعكس التغيرات العميقة التي تطرأ على الشخصيات والمجتمع نتيجة الانتقال من البادية إلى المدينة. هذه التيمة لا تقتصر على الجانب الجغرافي فحسب، بل تمتد لتشمل التحولات النفسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية التي تعيشها الشخصيات، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في بناء الحبكة الروائية وفهم تطور الشخصيات. في صفحة 10، يتحدث النص عن جيل ما بعد الاستقلال الذي عاش تجربة الانتقال من البادية إلى المدينة.
هذا الانتقال ليس مجرد تغيير مكاني، بل هو بداية لسلسلة من التغيرات التي تؤثر على حياة الأفراد، حيث يواجهون واقعًا جديدًا مليئًا بالتحديات. وفي صفحة 30، نرى كيف أن سيد الفقير وزوجته قررا الهجرة إلى المدينة بعد سنوات من العيش في البادية. هذا القرار يعكس الرغبة في البحث عن حياة أفضل، لكنه يأتي مرفقا بتحديات جديدة تتطلب التكيف مع واقع مختلف، يتطلب التأقلم مع الحياة الحضرية بسلبياتها وإيجابياتها.
يظهر التحول النفسي جليا في صراع الشخصيات: الحنين إلى الماضي/ والتكيف مع الواقع الجديد. في صفحة 68، يعبر الفقيه عن ندمه على الهجرة إلى المدينة، حيث يشعر بالاغتراب والحنين إلى الحياة البسيطة في البادية. وفي صفحة 66، يعيش المسافرون في الشاحنة في ظلام دامس أثناء الرحلة، مما يعكس الشعور بالخوف والقلق الذي يرافق عملية الانتقال. هذا الظلام يرمز إلى المجهول الذي يواجهونه في المدينة، مما يعزز شعورهم بالاغتراب وعدم الأمان. الانتقال إلى المدينة يؤدي أيضًا إلى تغيرات في العلاقات الاجتماعية والقيم التي كانت تحكم الحياة في البادية. في صفحة 11، يتحدث النص عن كيف أن الانتقال من القرية إلى المدينة يؤدي إلى تغيرات في العلاقات الاجتماعية.
في البادية، كانت العلاقات تحكمها القرابة والدم، بينما في المدينة تصبح العلاقات مبنية على المصالح الشخصية. وفي صفحة 67، يوزع الفقيه التمائم على المسافرين في الشاحنة، مما يعكس الاعتقادات الشعبية التي كانت سائدة في البادية. هذه التمائم ترمز إلى محاولة الشخصيات الحفاظ على قيمهم التقليدية في مواجهة التحديات الجديدة، مما يبرز الصراع بين القديم والجديد. التحول الثقافي يظهر في صراع الشخصيات بين القيم التقليدية للبادية والقيم الحديثة للمدينة. في صفحة 65، ترمز شاحنة ولد بنيني، التي تنقل المهاجرين من البادية إلى المدينة، إلى هذا التحول الثقافي.
الشاحنة تحمل المسافرين في طابق سري أسفل البضائع، مما يعكس محاولة الشخصيات الحفاظ على هويتهم الثقافية في مواجهة التحديات الجديدة. وفي صفحة 68، يعبر الفقيه عن حنينه إلى الحياة البسيطة في البادية، حيث كان يعيش حياة مليئة بالإيمان والقيم التقليدية. في المدينة، يجد نفسه يعاني من الفقر والكذب ولاستغلال، مما يعكس الصراع بين القيم القديمة والجديدة. أما التحول الاقتصادي، فيرتبط بالبحث عن الرزق وتحسين الظروف الاقتصادية. في صفحة 30، نرى كيف أن سيد الفقير وزوجته يقرران الهجرة إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل.
هذا القرار يعكس الرغبة في تحسين الظروف الاقتصادية، لكنه يأتي مع تحديات جديدة تتطلب التكيف مع واقع مختلف. وفي صفحة 82، يعمل سيد الفقير في بيع الملابس في المدينة، كمحاولة منه للتكيف مع الواقع الاقتصادي الجديد. ومع ذلك، فإنه يصطدم بالعنف ولاستغلال البشعين. من خلال هذه التيمة، يقدم إسماعيل البويحياوي صورة عميقة لتجربة الهجرة من الريف إلى المدينة، والتحديات التي تواجهها الشخصيات في البحث عن هوية جديدة. التحول في الرواية ليس مجرد تغيير مكاني، بل هو رحلة وجودية تعكس التغيرات التي تطرأ على الشخصيات والمجتمع، مما يجعل “خيط الروح” عملًا أدبيًا غنيًا يعكس واقع المجتمع المغربي في مرحلة التحول.
. 6.المكون الرحلي: تعتبر رواية “خيط الروح” لإسماعيل البويحياوي نموذجًا أدبيًا يعكس التحولات الاجتماعية والنفسية التي يعيشها المغاربة في مرحلة الانتقال من الريف إلى المدينة. المكون الرحلي في الرواية ليس مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل هو رحلة وجودية تعكس صراع الشخصيات بين الحنين إلى الماضي والتكيف مع واقع جديد مليء بالتحديات. يظهر هذا المكون بشكل واضح في انتقال الشخصيات من البادية إلى المدينة، وهو انتقال يرتبط بتغيرات عميقة في السلوك والوعي. على سبيل المثال، في صفحة 10، يتحدث النص عن الجيل الذي جاء بعد الاستقلال وعاش تجربة الانتقال من القرية إلى المدينة.
هذا الانتقال لم يكن مجرد تغيير مكاني، بل كان تحولًا في الهوية والانتماء، حيث يحاول الأفراد زرع جذور جديدة في المدينة بينما يظلون مرتبطين بأصولهم الريفية. تظهر صعوبة الرحلة من الريف إلى المدينة في وصف شاحنة ولد بنيني، التي كانت وسيلة نقل للمهاجرين. في صفحة 65، يُذكر أن الشاحنة كانت تحمل المسافرين في طابق سري تحت البضائع، مما يعكس الظروف القاسية التي كان يعيشها المهاجرون. هذا الوصف لا يعكس فقط الصعوبات المادية للرحلة، بل أيضًا الشعور بالخوف والقلق الذي يرافق عملية الانتقال، كما يُظهر في صفحة 66، حيث يعيش المسافرون في ظلام دامس أثناء الرحلة، مما يعزز شعورهم بالاغتراب وعدم الأمان. هذا الظلام يرمز إلى المجهول الذي يواجهونه في المدينة، وهو ما يعكس التحديات النفسية التي ترافق هذه الرحلة.
يظهر الحنين إلى الماضي والندم على الرحيل في تجربة الفقيه، الذي يروي في صفحة 68 كيف ندم على ترك البادية والهجرة إلى المدينة. يقول: “ندمت على الهجرة. أعيش الفقر والكذب في المدينة… كنت أفعل ذلك في البادية بسلام.” هذا النص يعكس الصراع الداخلي للشخصيات بين التمسك بأصولهم الريفية والتكيف مع الحياة الحضرية. الفقيه، الذي كان يعيش حياة بسيطة في البادية، وجد نفسه في المدينة يعاني من الفقر والكذب على نفسه وعلى الآخرين، مما يعكس التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها المهاجرون. هذا الندم يعبر عن الحنين إلى الماضي والرغبة في العودة إلى حياة كانت أكثر بساطة ووضوحًا.
يرتبط المكون الرحلي أيضًا بالاعتقادات الشعبية والخوف من المجهول، كما يظهر في صفحة 67، حيث يوزع الفقيه التمائم على المسافرين في الشاحنة. هذه التمائم تعكس الاعتقاد بأن الرحلة محفوفة بالمخاطر، وأن المهاجرين يحتاجون إلى حماية روحية من المجهول. هذا العنصر يضيف بعدًا ثقافيًا ودينيًا إلى الرحلة، ويعكس كيفية تعامل الشخصيات مع التحديات التي تواجهها. التمائم ترمز إلى محاولة الشخصيات الحفاظ على قيمهم التقليدية في مواجهة التغيرات التي تفرضها الحياة الحضرية. في صفحة 30، نرى كيف أن سيد الفقير وزوجته قررا الهجرة إلى المدينة بعد سنوات من العيش في البادية. هذا القرار لم يكن سهلاً، حيث كان سيد الفقير يعمل في الحقل ويربي الدجاج، لكنه قرر الانتقال إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل.
ومع ذلك، فإن هذه الرحلة جاءت مع تحديات جديدة، حيث واجه سيد الفقير وزوجته صعوبات في التكيف مع الحياة الحضرية، مما يعكس الصراع بين الحنين إلى الماضي والواقع الجديد. لقد عبر الرجل عن ألم مغادرته للبادية بقوله: “كان أول خروج لي من خميس الزمامرة. كانت هجرة الحقل، والأهل أثقل علي من ‘قطع البزولة’ فطام الرضيع.” (صفحة 26). هذا التعبير يعكس مدى صعوبة الانفصال عن البيئة الريفية التي كانت مصدرًا للأمان والاستقرار.
وكخلاصة، يمكن القول إن رواية “خ ي ط ا ل ر و ح” تسلط الضوء على رحلة وجودية، هي في عمقها رحلة مسارات ومصائر وتحولات الشخصيات على المستويات النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وينكشف هذا بجلاء في وصف الحياة في البادية، وصعوبات الرحلة، والحنين العميق إلى الماضي، والاعتقادات الشعبية، والصراع مع الواقع الجديد، بحثا عن ملاذ يفرض تكوين هوية جديدة، بينما ظلت جل الشخصيات مرتبطة بأصولها، مما يجعل الرواية عملًا أدبيًا غنيًا يعكس واقع المجتمع المغربي في مرحلة التحول المفتوح أبدا.
(°) ناقد مغربي
error: