التركيب السردي في مجموعة “ماروكان” لمحمد العتروس

235
  • الحسين والمداني (حسام الدين نوالي) (*)
1- الدهشة والاختلاف
كل نص هو مجموع الإجابات المفترضة عن أسئلة ما، الأسئلة التي يشتغل الكاتب عليها دلالياً وجمالياً في الآن نفسه، وهذا الافتراض يستلزم وجود تراكم وترتيب وحركة إلى الأمام، أي أن النص يستند إلى سلم تؤثثه درجات هي بنيات صغرى، وهي في الآن نفسه إجابات أولية مرتبة وفق رؤية خاصة ورسالة جمالية بالأساس لتبني هرماً يشتعل في نهايته السؤال الأكبر الذي أسس عليه الكاتب اشتغاله أصلا.
وكل إجابة تفترض إشباعا دلالياً وفنياً يسمح بالانتقال إلى السؤال الموالي؛ بيد أن كل طفل يعشق تكرار سماع الحكاية نفسها عدة مرات، فهل للاشباع المفترض هنا علاقة بالتكرار؟.
إنه يعيد متعة الاجابات، متعة الامتلاء ، متعة الدهشة الأولى للاكتشاف إلى حد لا نهائي.
وحين نوقن أن الكاتب الذي ينجح في إيقاظ الطفل الذي يسكننا يكون قد نجح في ربطنا إلى النص وأسئلة النص في الخط الحلزوني اللانهائي، ويكون أيضا قد منحنا فرصة العودة للمتعة الأولى: متعة التكرار، والاعادة، والتراكم: تراكم الإشباع. فهل نكون حينها قد سبحنا في النهر مرتين؟.
كان هيراقليطس قد أجاب في معرض الكناية عن التحول والحركة الدائمة، وكان كتاب “ماروكان” قد أجاب أيضا في معرض البناء والتكسير وإعادة البناء والتكسير معا، ضمن دائرة حلزونية لا نهاية لها، اختار الكاتب محمد العتروس الاشتغال عليها سردا وفي سبكٍ سياقي يتجاوز التوكيد والتثبيت والتكرارية.
وقد كان السجلماسي بين هذا وذاك، في “المنزع البديع” يسميه “البناء”، تلك الإعادة المحيلة على السابق في اللفظ الواحد، أو “الاطلاق المتحد المعنى” بشكل يمنح تراكيب النص تعالقا وبنائية في الآن نفسه. يسميه جاكوبسون “التوازي” سواء على مستوى تنظيم وترتيب البنى التركيبية أوفي الأشكال والمقولات النحوية أو الترادفات المعجمية أو تأليفات الأصوات والهياكل التطريزية… وكل هذا بغية تحقيق الانسجام من جانب والتنوع من جانب ثان.
فإذا كان كتاب “ماروكان” يمعن في الاشتغال على التوازي التكراري سواء من خلال العناوين الداخلية : (من علم الحاوي- من علم الكهان/ ماروكان “11 مرة”/ جدي والمصعد- جدتي والكفن / امرأة – امرأة أخرى) أو من خلال البناء الحكائي داخل بعض النصوص (نص “سقوط”، ونص “الكأس المرة”) أو من خلال البنى التركيبية (فرح كالحزن، جذور، ماروكان8 ، كسر…وغيرها) – فإنه لا يكتفي بمنح شهوة الاجابات فقط ومتعة إعادة الامتلاء الطفولية، وإنما خلق أضمومة كروية، تجعل الفعل السردي والحدث وأزمنة النصوص دائرة تتجاوز معهوديتها إلى التفكير فيها كــ “مُطلق” و كــ “لانهائي” حيث لا بداية ولا نهاية لعوالمها، تماما مثل المتجمهرين الذين –منذ زمن ما- “وهم ينتظرون أن يعرفوا البداية كي يعرفوا النهاية، وأن يعرفوا النهاية كي يعرفوا البداية” .
وجدير بالذكر أن البنيات المتوازية جميعها داخل المجموعة، استطاعت أن تمنح العمل ككل تموجات لا نهائية ، بحيث أن كل موجة تتشابه وتختلف في الآن نفسه، تتقاطع مع غيرها وتفارقه في الآن نفسه، وكل منها تقدم خطوة داخل البناء الدرامي والسردي والجمالي ، سواء للنص الواحد أو للعمل ككل، فصارت أشبه بثمار الجنة، “كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها“.
2-  النص الصوتي والنص السينمائي
البياض..
لعل التوزيع الكاليغرافي داخل مجموعة “ماروكان” يتم ترتيبه وفق تصور سردي وجمالي، فأن يمنح الراوي مساحة الصمت الذي يوازيه البياض داخل النص هو إعطاء الجملة متسعا أكبر من الغلاف الزمني للقراءة من جهة، وإحجام عن الكلام من جهة ثانية. وهو إمعان آخر في التشبث بلحظة الامتلاء، بالإجابة الأولية لسؤال ما، وبالعودة للطفل الأول.
أليست الجمل المترابطة بالتجاور غير إعادة لتجربة الطفل في الكلام؟
يقول الراوي:
امرأة سمراء جميلة.
رجل أبيض وسيم.
امرأة قادمة في قافلة من الصحراء.
رجل من قبيلة بني يزناسن في عصبة من الرجال.
رجال أغاروا على القافلة. اقتسموا الغنائم.
الرجل لم يرض بغير المرأة.
المرأة حاولت قتل نفسها.
الرجل حملها على صهوة جواده وغاب خلف الجبال.”
إنها عودة لبداية اللغة، عودة للنصوص الأولى المكتوبة على الصخر لشعوب قديمة، عودة لتهجي الطفل وتأتأته.. وفي العودات كلها احتفاء باللقطة، منح كل جملة مساحة كافية للبروز، ومنح إجابات النص متسعا للغوص ، للتفكير، وكأننا إزاء لقطات عديدة متجاورة وبطيئة. تمطط الزمن فلا يتساوى زمن الحكاية والزمن الحقيقي، وتمثل العودة للسطر معادلا بصريا للستار في المسرح للانتقال في الزمن والمكان.
يتكرر هذا الاشتغال في نصوص عديدة ( باب أزرق، باب أبيض- ماروكان9- الكأس المرة…) ويتضخم البياض بحيث يوازي السواد، ويغدو الاشتغال على القول قرينا للاشتغال على اللاقول، تماما كما يمنح الحكواتي متسعا للصمت في حكايته، وتماما كما لو أننا ننصت للراوي، فيغدو توزيع الجمل والتراكيب معادلا لتصور الكاتب للإلقاء، يتجاوز به النص القرائي إلى النص الصوتي. فيما يصير توزيع الفقرات وتجاورها أشبه بمقاطع سينمائية نلمس فيها تحرك الكاميرا وتراكب المشاهد واللقطات في مونتاج يخلق الدلالة التي تتجاوز المقول والمصوَّر نفسه، كما في القولة الشهيرة للمخرج الروسي “أيزنشتاين” (1+1=3)، في إشارة إلى الدلالة الثالثة الناتجة عن تجاور لقطتين.
3-  في اتجاه الحكاية
من هوميروس إلى آخر حرف في الآتي السحيق، سيظل الأدب بساطا سحريا ينقل الفكر والفرد والمجتمع والقيم إلى التغير؛ تغير يتأسس أصلا على متقابلين، وعلى التجاوز، وعلى النقد، فيما التجاوز يتأسس على زحزحة بنيان ما، وعلى الإدهاش، والإقلاق.
إقلاق تمعن مجموعة “ماروكان” في إشعاله من خلال سيرة المهاجر المغربي في أوربا في دلالتها الأولى البسيطة، غير أنها في مجموع نصوصها دعوة ذكية للذهاب أبعد من ذلك. إنها سيرة الذوبان الحضاري. يقدم فيها الكاتب “الجد والأنا وتاريخ العائلة” كأعمدة للحكاية. فإذا كان الجدّ الذي لا يتخلص من تراثه، وتاريخه، في أسمى علو حضاري ممكن (يمثله المصعد) فإن الانبهار بالآخر بفعل ضوئه الحضاري وألقه، وجاذبيته (فرنسا) ينتج “أنًا” منقادة، لا تتأسس على رأي الأخر وانفعالاته وبناءاته الفكرية وخلاصاته البريئة وغير البريئة، بحيث لا يمكن العودة إلا بزحزحة أقوى للهشاشة، وتكسير عصا الجد على المناعة المهلهلة ، من أجل خلاصة قوية ولو على فراش الموت: (أن السم يقتل الانسان كما يقتله النسيان) ، سمّ المورود، ونسيان الموروث.. وتلك حكايتنا جميعا.
حكاية فكر مخصي، مثليّ، عاهر، ومثير لشهية الآخر اختراقا و تغلغلا ، صار بفعل حصار في الداخل و نكران خارجي مشتتا بين تراث لم يتجاوز في علاقته به مستواه الحكائي “الناصري في استقصاه” ، وبين اعتراف معدوم من الخارج “في عدم اختصاص لاهاي”. ولم يتجاوز تدخل مفكريه للإصلاح غير تورية التنكيت بين “أومو homo” و”أرييل” في استكناه جميل للعفن الداخلي من جهة والتنظيف الآتي من الخارج من جهة ثانية.
وإذا كان الإصلاح الفكري للمجتمعات لا يتم إلا بالفكر نفسه، فإن أمنية “المثقف” داخل النص أن يصير الكتاب في وطنه “إدمانا” مثل الحشيش تماما. إدمان لا يمثل غير تهمة توقظ حواس الآخر الحضاري وتستنفرها ضده .
وبتركيب سردي يستند على التوازي التكراري، والصوت، والمساحة الزمنية للحكاية، والانتقال السينمائي يختار القاص محمد العتروس الاشتغال في مجموعة “ماروكان” على الشكل الأنسب لحكاية النقد، وبين مساحة التكرار ومساحة الزمن متسعٌ لرؤية تسمح بالتقييم، وتسمح بنصب مرايا وكراسي ثابته لإطالة النظر للذات وأوهامها الحضارية.
ماروكان”، التي ليست غير الـ “نحن”، بصيغة ضياع، بصيغة الهوية المتشظية بفعل القوة الحضارية للآخر، وبصيغة الإقلاق هي دعوة للنظر إلى الذات في لقطة ليست بربطة عنق وخلفية أنيقة، ولكن بكل التشوه اللغوي والفكري والحضاري؛ والذي لم يكن غير انزياح غير لائق في التاريخ الطويل للأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قاص وناقد، من أعماله “العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة بالمغرب” ومجموعتي “الطيف لا يشبه أحدا” و”احتمال ممكن جدا”
error: